الخميس، 25 أغسطس 2016

إهداء

باسم المروءة والوفاء أهدي هذه المذكرات إلى أولئك الذين سخروا حياتهم لرعايتي والاهتمام بي وكان لهم فضل كبير في مسيرة الحياة. 
أكرر هنا بأن يد الإمتنان أقدمها لمن اسهم في مد يد العون إلي لتجاوز قسوة الظروف الاجتماعية التي عشتها في العقدين الثالث والرابع وتمكنت من تجاوز جميع الصعاب والوقوف على قدمي بثبات. 
وكيلا يتطرق الشك بأنني أستثني أحداً فإهدائي من حيث الشمولية يتناول كل من له حق عليّ. 
بهذه المذكرات نهجت أسلوباً استوحيته من مجلة المختار التي كنت أتابع قراءتها في الخمسينات فكانت بلسماً شافياً أغنت نفسي بالعلوم والمعارف الثقافية والأحوال الاجتماعية والتاريخية حتى أنها كانت تتطرق إلى نشر قصص من واقع الحياة فأرست في أعماقي حب المطالعة والتزود بالثقافة لقد أطلقت على هذه الومضات عنوان " مختارات من الحياة" لتنوع ما جاء فيها من مواضيع تدخل البهجة وتذهب الملل. 
أختم إهدائي بأن أتوجه إلى أبناء وطني الكبير وأبنائي البررة بأن يكونها يداً وأحدة في السراء والضراء تسودهم روح المحبة والوئام وأحب أن أذكرهم بقول أحد الحكماء: 
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً            وإذا انفردن تكسرت آحادا 
وختاماً آمل أن تكون هذه المختارات قد لبت أمنية من يقرؤها وتدخل إلى نفسه البهجة والسرور . 

بكل محبة ووفاء

25/8/1437هـ  الموافق : 1/6/2016م 


محمد لطفي الغنام


بسمة أمل

لا أخفيكم سراً أن ذكرياتي السابقة قد اقتصرت على مجموعة محددة مما يختلج في صدري لأنني كنت في سباق مع الزمن لذلك عمدت إلى استغلال هذه الفرصة الذهبية بتسليط الأضواء فيها على أبرز الأمور لأتبعها بأخت لها تتضمن ما أرجىء تبيانه كسباً للوقت عملاً بنصيحة القول أن تقديم شيء أفضل من لا شيء.
لقد توخيت في مذكراتي الأم أن اضمنها من الأمور أكثر ما يغطي بعض الجوانب التي مررت بها إضافة إلى التركيز على ناحية هامة وهي التكلم بإيجاز عن أهم الأحداث التاريخية في المرحلة التي سبقتها قطعاً لكل تساؤل. 

هذا وأن متتبع الأحداث المؤلمة التي يمر بها وطننا العربي الكبير بلمس بشكل قاطع لا يقبل الشك بأنها ثمرة من ثمرات المؤامرات الدنيئة التي رسمها المستعمر الجديد خدمة لمصالحه تدعونا إلى تسليط الضوء عليها للخروج منها بسلام. 

هذا وإن الواقع الذي نعيشه اليوم يدمي القلب ويبعث إلى الحزن والأسى لما آلت إليه الأمور ويدفعنا إلى الابتهال إلى الله العلي القدير أن يحقق الأمن والاستقرار في ربوع بلادنا الحبيبة والتآلف والمودة فيما بينها. 

والله ولي التوفيق،،،

رؤيات سابقة

رغبة في وضع من لم تتح له الظروف قراءة وأخذ فكرة عما جاء في المذكرات السابقة أجد جداً من المفيد أن أسرد من جديد ما يحبش في صدري من ذكريات لم يكن من المستطاع أبداً الإحاطة بها دفعة وأحدة في مهلة تسابق الزمن. 
لذلك أقدم باختصار ما جاء في المذكرات السابقة لاعطاء فكرة عن مختلف الأمور التي جاءت عليها. 

أ- الحوادث التاريخية: 
  1. لمحة تاريخية عن ملابسات المؤامرات والأتفاقات المعادية للثورة العربية الكبرى. 
  2. تنفيذ أحكام اتفاقية سايكس وبيكو واقتسام الغنائم. 
  3. الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان وفرض الانتداب عليها. 
  4. معركة ميسلون والتضحيات الجسام لوقف العدوان. 
  5. ظهور المقاومة ومقاومة المحتل للرجوع عن تقسيم البلاد. 
  6. ملخص عن المخطط الاستعماري الجديد بتجزئة سورية إلى دويلات. 
  7. قيام الثورات العارمة وإعلان الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش. 
  8. الدور الذي لعبه رجال الوطن الأحرار في مجابهة المحتل وحمله على تطبيق حكم دستوري شرعي بسيادة كاملة. 
  9. نتائج الحرب العالمية الثانية بإعلان استقلال سورية وجلاء المحتل الغاشم عن أرض الوطن. 
ب- المذكرات الشخصية: 
  1. لمحة موجزة عن تاريخ العائلة التي أنتمي إليها وشرح موجز عن أسلوب حياتها. 
  2. فكرة عن طبيعة البيئة التي عشت فيها والصلات الاجتماعية بين سكان الحي.
  3. صور من الماضي عن أسلوب الحياة في ظروف قاسية. 
  4. شرح توضيحي لمراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي. 
  5. ملامح حية عن الشهامة وسلوكية أفراد المجتمع التي تتسم بالمرورة والوفاء. 
  6. مرحلة التكوين الذاتي في ميدان العمل الوظيفي في التعليم والاتصالات. 
  7. أهمية الدورات التدريبية :في تهيئة الكوادر المتخصصة. 
  8. شرح تفصيلي لنوعية الأعمال الوظيفية التي قمت بها في المجالات المختلفة. 
  9. نوادر وطرف وحوادث عابرة. 
  10. تقديم خلاصة عن تجاربي في الحياة العملية.

خاطــرة

إن من يستعرض تاريخ وطننا العربي يجد أنه تعرض خلال القرون الماضية إلى عراك قاس مع الزمن يخرج من ورطة قاتلة إلى ما هو أعتى منها.

ومن قبيل التأكيد على أن ما شهده من أحداث ليست وليدة وقتها وإنما كانت دفينة في قلوب يملؤها الحقد انتظرت الفرصة السانحة لتروي ظمأها الشديد وتحقق حلمها الذي نامت عليه طويلاً.

وحمداً لله فإن تلك الغمة التي مرت بها البلاد لم تدم طويلاً وقطف شعبها ثمار التضحيات ونعمنا بما يجب أن تنعم به من رخاء ولكن العاصفة كانت أقوى بكثير وهبت من جديد لتنال حرية عدد من بلاد العرب في شرقه وغربه وشماله وجنوبه التي ذاقت مرارة الاحتلال وبشاعته ولكنها وقفت صامدة كالصخرة التي تتلاطمها الأمواج حتى تكللت معارك النضال بالفوز والنجاح ولكن وللأسف الشديد لم يدم ذلك طويلاً لأن ما كان يرسم في الخفاء أقوى وأعتى مما كانت تتصوره العقول. 

وكيلا يقف المرء مندهشاً أمام مجريات الأحداث أصبح من الضروري أن يتم تسليط الضوء على التسلسل التاريخي لها والظروف التي كانت وراءها.

هذا وإن عودة سريعة إلى الوراء تظهر بوضوح الأطماع الاستعمارية منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر بدأ باحتلال جزئي للمغرب العربي من قبل فرنسا (المغرب – الجزائر- تونس) نهشتها من فم الدولة العثمانية التي كانت تحتل القسم الأعظم من وطننا الغالي أعقبها احتلال ايطاليا "لليبيا" وانكلترا على أجزاء اخرى بحجة حماية طريق الهند. 

وما إن بزغت شمس الحرية ولاحق في الأفق بوادر الاستقلال التام لينعم وطننا في العيش الرغيد حتى بادرت الدول الاستعمارية إلى الإعلان عن نواياها وما حاكته من مؤامرات بالخفاء إلى ترجمته قولأً وفعلاً باحتلال أراضيه من أجل اقتناء هذه الجوهرة الثمينة. وللوقوف حجر عثرة أمام تقدم شعوبه ليحتل مكانه اللائق تحت الشمس إضافة إلى ناحية هامة برهنت الأيام على صحتها وهي تجزئة الأوطان وبث روح الفرقة بين أبنائه.
وخير مثال هو زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين العربية وكذلك التنازل عن بعض الأقاليم في شمال سورية وضمها إلى الأناضول في تركيا وسلخ لواء اسكندرون واعتباره أرضاً تركية خلافاً للمواثيق والاتفاقات الدولية. 

الأطماع الخفية

مما لا يقبل الجدل فإن الهجمة الشرسة قد آتت أكلها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث أنها تمخضت بظهور عملاقين كبيرين في العالم الأول العالم الرأسمالي وتتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية والثاني العالم الشيوعي الاشتراكي ويتزعمه الاتحاد السوفياتي ما لبث أن أحتدم الصراع بينهما حول اقتسام دول العالم الثالث ليكون تابعاً موالياً لها في تنفيذ مخططاتها التي يراعي فيها بالدرجة الأولى مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ومن الطبيعي جداً أن يكون الوطن العربي الكبير المرمى الأول لها واحتدت سبل المنافسة الضارية لإخضاع أكبر عدد ممكن من دويلاته تحت سيطرتها بطرق ملغومة لتدور في فلكها اختلفت كلياً عن مفهوم الاحتلال المباشر والهيمنة على مقدراتها واستغلت موضوع حاجتها الملحة للمساعدة الفعالة في جميع الميادين للتغلب على المشاكل والصعوبات التي اعترضتها للخروج من مخلفات الماضي التأخر والتخلف لمواكبة سلم الحضارة.
ومما سهل على تمرير المخططات التآمرية والأهداف هو الواقع العربي حيث تصرفت كل دولة عربية لمعالجة الوضع بمفردها بنهج يختلف من بلد لآخر أو من خلال تكوين اتحادات أو تكتلات لم يكن لها أي بعد في التنمية والتطوير وبقيت أسماً بلا مسمى وانقسمت في علاقاتها مع تلك الدول بعضها نحو الغرب وأخرى نحو الشرق وكانت المعركة شرسة لم تلق في نتائجها رغبة مجموعات دول الطرفين مما دفعها إلى وضع منهجية جديدة تقوم بالدرجة الأولى حول الاستمرار في تنفيذ مخططاتها وبالتالي رسم السبل الهادفة إلى وضع حاجز فكري أمام تصاعد المذهب الاشتراكي.
أفرز هذا التطور الهام في العلاقات الفعلية إلى نشوء منظمة عالمية انطلاقاً من معيار سياسي يتمحور حول قطب ثلاثي يضم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي والصين واليابان وكندا واستراليا باسم " دول الشمال" والثاني دول متباينة في أفريقيا وبعض بلدان آسيا ومجموعة البلدان العربية باسم " دول الجنوب " وتتميز العلاقة بين هاتين المجموعتين بهيمنة دول الشمال على دول الجنوب أقتصادياً وثقافياً.
وقد بنى تصنيف هذه الدول على أساس أن دول الشمال تتمتع بجميع مقومات الحياة الأساسية من حيث القوة الاقتصادية والثقافية وقطع أشواط مبهرة في التطور والنمو والأمن الغذائي والظروف الصحية والفوارق الطبيعية.

في حين أن دول الجنوب بعضها مهبط الأديان السماوية الثلاث ومهد الحضارات وبعضها يملك ثروات ضخمة من المواد الأولية للصناعة والنفط والغاز ولكنها في الوقت نفسه تعاني من ويلات التأخر المرحلي من حيث الاقتصاد ونقص الانتاج الفلاحي والغذائي وبنية سكانية مبنية على الأزدواجية بين ما هو عصري وتقليدي. 

ومن هذا المنطلق يتضح بشكل جلي أن العلاقات بين دول الشمال ودول الجنوب على المستوى الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي هي نتيجة مراحله تاريخية ذاتية مرتبطة بدول الجنوب. 

وبهدف تمكين دول الشمال من تحقيق ما تصبو إليه فإنها كانت ملزمة بتحديد أطر التعاون في مختلف الميادين على نحو تبدو فيه البراءة وسمو الأهداف والرؤيا الصادقة في معالجة الداء بعيداً عن كل غاية. 

وقد نجحت ووضعت يدها على مكامن ما تعانيه دول الجنوب من مشاكل وصعوبات حصرتها بالمساعدات التالية: 

  • ضمان السلام والاستقرار واحترام حقوق الإنسان. 
  • التسامح الديني والثقافي وتحقيق الديمقراطية. 
  • معالجة قضايا المرأة والشباب والتربية والعمل الجماعي. 
  • معالجة الصراع العربي الإسرائيلي. 
  • معالجة النزوح السكاني من الريف إلى المدن ووضع ضوابط للهجرة المشروعة. 
  • انشاء مناطق للتجارة الحرة. 
  • تقديم المساعدات المالية.


وفي الحقيقة أن كل ما ظهر للعلن كان من قبيل إظهار النوايا الحسنة قولاً وليس فعلاً واتجهت توجهات دول الشمال الحقيقية حول استعادة النفوذ والهيمنة وتبعية الدول لها. 
وما نشهده هذه الأيام من أحداث دامية ما هو إلا ثمرة من ثمار الحقد والكراهية يدعو إلى الوقوف بحزم أمام هذه الهجمة الشرسة التي تستهدف أمننا وبقاءنا في الوجود.

رأي

أرجو المعذرة لأنني ذكرت هذه الخاطرة فهي تمثل واقعنا الحالي وأسباب نشوء ما نعانيه من ويلات تدمي القلوب من أطراف تظهر المحبة والمودة ولكنها في الحقيقة تحمل المعول الهدام في كياننا ووجودنا. 

وفي الوقت نفسه عمدت إلى توسيع شمولية المذكرات بحيث سوف نتطرق إلى جوانب أخرى متنوعة في مواضيعها لكل منها لون خاص به يشد القارىء ويدفعه إلى المتابعة ويصرف عنه الملل وأطلقت عليها تجاوزاً عنوان " مختارات من الحياة" ذاتية – تاريخية – أدبية- نوادر وطرائف- نماذج من العلاقات البشرية.. الخ. 

آمل من أعماقي أن تنال الرضا والقبول.


بـــدايــات

ما إن أشرقت شمس الحرية على ربوع بلدي الحبيب سورية وما نعمت به شعوب وطننا العربي الكبير من عطاء كريم من أكرم الأكرمين حتى بدأت بوادر النهضة البراقة تظهر للعيان في مختلف مرافق الحياة وبدأت الشعلة المضيئة التي أنتقل حملها إلى الجيل الصاعد المتسلح بالفكر والإيمان وعزة الأوطان تبشر بغد مشرق يعيد لها مكانها اللائق تحت الشمس. 

وحمداً لله وألف شكر له لما نلمسه وتراه من أفضال أسبغها علينا ننعم فيها بجودة كرمه يحسدنا عليها القاصي والداني وتحدثاً بنعم الله أنها لا تقل شأناً وبشكل قاطع لما هو في البلاد والتي تدعي التفوق والتعالي عن الآخرين. 

وما تمر به بعض البلدان في المرحلة الراهنة ما هو إلا سحابة ضيف سوف تنجلى بإذن الله وتزول هذه الغمة ونبدأ مرحلة جديدة مرحلة الأخوة والبناء وإعادة ما قسى به الدهر علينا. 

من هذا المنطلق سوف أتناول التركيز على ذكريات دفعني ضيق الوقت إلى إرجائها إلى حين على أن يتخللها ذكر بعد الأحداث الشيقة تسر القلوب وتبرهن على عراقة شعبنا العظيم بشهادة الآخرين. 

والآن أقول عدنا والعودة أحمد للكلام على ما يجيش في أعماقي من ذكريات على نفس النسق السابق من حيث تضمينها أموراً يستوجبها سياق الحديث تضفي جواً من البهجة والسرور. 

بينت أنني قد عشت في حي تم بناؤه خارج سور مدينة دمشق ضم أبنية حديثة من الحجارة وفق النسيج العمراني الجديد ودوراً للسكن على غرار مدينة دمشق القديمة موزعة على أحياء ضمت عائلات ملاكة ومستأجرة حسب الحال تم الأخذ بعين الاعتبار توفير الأسواق المحلية المختلفة التي تغني عن تحمل المشقة إلى الذهاب إلى مركز المدينة لتأمين جميع المتطلبات الأساسية إضافة إلى انشاء ظاهرة الباعة الجوالين الذين يتنقلون من حي إلى حي بعرباتهم لبيع بضائعهم مدللين على وجودهم بالصياح بأعلى أصواتهم لما يحملونه من حوائج الناس وفي الحقيقة كانت سوقاً متنقلة بكل معنى الكلمة خففت حملاً كبيراً على رب العائلة حيث كانت ربة البيت تؤمن جميع متطلباتها باستثناء اللحمة التي كانت من مهمة الرجل.

كما وأن تجمع النسوة حول الباعة المتجولين لم يغن إطلاقاً عن تبادل الأحاديث والقيام بزيارات قصيرة لشرب القهوة والدردشة. 

أما الزيارات التي كان عليها المعول في أمسية كل يوم هو أن عدداً من النسوة يؤلفن مجموعة تقوم بتبادل الزيارات دورياً تكون فيه الضيافة نوعاً من المأكولات الشرقية العريقة: "الكبة المقلية – الحراق اصبعه - الرز بحليب - البالوظة - الكاتو- الكنافة...) مع تناول المشروب الساخن أو البارد حسب الفصول وكن يتسامرن وهن يتسلين بالمكسرات وكان من المتعارف عليه أن الإجتماع يحمل اسم "الاستقبال" وكان له دور هام في توطيد أواصر الصداقة والمحبة بين أكثر عائلات الحي. 

ومن قبيل أن الشيء بالشيء يذكر فإن موقع الحي كان استراتيجياً لا يقل شأنه عن وسط مدينة دمشق حيث كانت الدور الجنوبية منه تقع على مرتفع أجمل حديقة في دمشق أطلق عليها اسم المنشية ملاذ المواطنين على اختلاف فئاتهم ذكوراً وإناثاً للاستجمام والراحة والاستمتاع بمشاهدة تدفق مياه نهر بردى الخالد أحام ناظريهم. 

وقد انعكس هذا الموقع الباهر على تصميم البيوت فيه على نسق الفن المعماري الدمشقي الأصيل الذي اشتهرت به دمشق حيث كانت متناسقة بجمالها الأخاذ من بدايته في منحدر مدرسة التجهيز حتى نهايته عند قصر الضيافة وقد شمله التحديث والتطوير وأقيم على أرضه في يومنا هذا فندق الفصول الأربعة وأسواقه الجميلة الحافلة بأحدث منتجات الأزياء والعطور وأدوات الزينة لأشهر الماركات العالمية. 

ولابد هنا من القول بأن المشرفين على تصميم الفندق وإنشائه أخذوا بعين الاعتبار الحفاظ على جامع تاريخي قديم بناه الأمير فروخ شاه تم ابرازه لرواد المقاهي والاستراحات على نحو جميل أخاذ. 

أما من الناحية الشمالية فكانت هناك إضافة إلى دور السكن بعض المحلات التجارية ومدرسة ابتدائية خاصة يجاورها مسجد الإسعاف الخيري للعبادة وقبالته كنيسة متميزة بناقوسها المشيد بفن معماري رفيع وإلى جوارها بناء مدرسة الفرنسيسكان الخاصة. 

أما من الناحية الشرقية من الحي فتقع مدرسة التجهيز الأولى وقد شيدت على أرض مساحتها واسعة بفن معماري عالي المستوى من الحجارة المنقوشة البيضاء تحيط بها حديقة غناء وتزهو مداخلها بممرات تفصلها عن ساحاتها الداخلية حواجز حجرية بيضاء نصبت عليها أعمدة أقواس السقوف.

وقد روعى عند بنائها الحرص الشديد بأن تكون في منطقة من أجمل مناطق دمشق وعلى ضفاف بردى لتكون صرحاً علمياً يظهر للعالم بأن الشرق يبقى منارة للعلم والمعرفة والثقافة والنهضة ولإقامة عليها ظاهرة اقتصادية هامة حيث شيد البناء في بقعة غناء بفن معماري يبهر الألباب ما زال على جماله الفتان حتى يومنا هذا. 

ومن قبيل الصدف الخارقة انتشرت في تلك الحقبة من الزمن ظاهرة إقامة المعارض في بعض بلدان العالم وأنه رغم الظروف القاسية التي كانت تعاني منها البلاد في عراكها السياسي مع المحتل الغاشم للوصول إلى حكم ذاتي مستقل يبشر بالجلاء التام عن أرض الوطن رأت السلطة السياسية الاستفادة من هذه الفرصة الذهبية لتقديم البرهان الساطع للعالم أجمع بما تملكه سورية من إمكانيات عالية في مختلف الصعد وقررت إقامة معرض يظهر التطور والرقي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ووقع أختيار المكان على بناء التجهيز لتوفر جميع المتطلبات فيه وتحقق الحلم بمعرض دمشق عام 1936 اشتركت فيه بعض البلدان العربية مصر، العراق، فلسطين، المغرب وأخرى أجنبية تركيا والهند وإيران أفتتح المعرض وكان آية في التنظيم والإبداع أبهرت في روعتها زوارها التي أمت دمشق من جميع أنحاء سورية والبلدان الشقيقة المجاورة حيث كانت فترة استجمام لهم من هموم ومتاعب الحياة في التجوال في باحاته الخارجية التي أنتشرت فيها أحواض الزهور وبرك المياه بنوافيرها التي تعلو في السماء أو الجلوس في الحديقة التي أنشئت في جنوب مدخله الرئيسي للاستمتاع بمشاهدة جمال وروعة الطبيعة الغناء وتدفق مياه نهر بردي الخالد يتناولن ما لذ وطاب من مأكولات ومشروبات من الباعة المتجولين.

وإذا ما جلت في قاعات وصالات العرض التي هي داخل البناء وشاهدت المعروضات على اختلافها من مصنوعات نسيجية وخصوصاً البروكار والصناعات اليدوية الموزاييك والتحف الشرقية والملابس الفولكلورية الخاصة بكل منطقة من البلاد وصناعة الحصر والبسط والأرائك ومعروضات المنتجات الزراعية على اختلافها تراءى لك الشرق وما فيه من سحر وجمال أخاذ ويبرهن بشكل قاطع على مهارة أبنائه في مجال الصناعة والزراعة وأنه شعب أبي حر جدير بحياة كريمة وقد تم التركيز بشكل خاص على الناحية الثقافية حيث تم إبراز أهم المؤلفات في جميع الميادين العلمية والطبية والرياضيات والتاريخ وشواهد من آثار الحضارات العربية.

ولعل ما أثار دهشة الزائرين على اختلافهم قاعة الوجيه الدمشقي حسين أيبش تم فيها عرض جميع الحيوانات التي اصطادها من غابات أفريقيا وآسيا على اختلاف أنواعها الأهلية والمفترسة والزواحف والطيور وكانت بحق موضع إعجاب الزائرين اقترحوا حيالها انشاء متحف خاص باعتباره ثمرة مجهود فردي برهن أن التصميم والادارة يفعل المستحيل.

ومن قبيل الوفاء للعلماء العرب العباقرة فقد تم تكريم عدد كبير منهم بهذه المناسبة وعلى رأسهم عالم الرياضيات السوري العبقري جودة الهاشمي بتقليده وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى وأطلق على بناء التجهيز الذي أصبح فيما بعد مدرسة باسمه "ثانوية جودة الهاشمي" تخليداً لذكراه ودوره الهام في مجال التعليم والتربيه حيث تخرج على يديه آلاف الاختصاصيين بعلم الرياضيات وكانوا حصاد غرسه.

- ومن الصعوبة بمكان الاسترسال في الحديث عن النجاح الكبير الذي حققه المعرض ومن المفيد القول أنه كان نواة لإقامة معرض دمشق الدولي الكبير في الخمسينات وقد تمكنت السلطة السياسية أبرز ناحية هامة بأن يكون المعرض شرقي الصبغة عربي الفكرة ويبرهن في الوقت نفسه على قدرة الأمة العربية بما تملكه من إمكانات خارقة قادرة على قيادة نفسها بنفسها ويؤكد ضرورة أن تنعم بأبراز نشاطاتها وقدرتها على الإنتاج اللذين هما عنوان استقلال الأمم. 

نسمات الحرية

- وخلال الفترة نفسها التي ظهرت فيها نشاطات هامة في مختلف المجالات لتقديم البرهان الساطع بأن سورية قادرة بنفسها على النهوض بأعباء التطوير والنمو رغم هول الأرث الذي تركه الأحتلال العثماني ثابر رجال سورية الأحرار بمقارعة المحتل الجديد وحمله إلى منح البلد حريته الكاملة بإدارة شؤون دون أية وصاية بإرساء الحكم الدستوري من قبل مجالس وحكومات تمارس سلطاتها بسيادة كاملة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية ولكن جميع جهودها ذهبت أدراج الرياح وتوسعت الهوة بين سياسي الكتلة الوطنية والسياسيين المستقليين والوطنيين الأحرار مما سبب معارضة عارمة أسفرت عن أضراب عام في جميع أنحاء البلاد دام ستين يوماً سمي بالإضراب الستيني حمل المحتل على الموافقة لتـأليف وفد سوري لإجراء مباحثات ومفاوضات مع الحكومة الفرنسية للخروج من الأزمة حيث تمكن الزعماء الوطنيون من التوصل إلى اتفاق يتضمن سلسلة من الإجراءات لتنفيذ حكم وطني حر يتمثل بمجلس نيابي وحكومة تتمتع بأوسع الصلاحيات لإدارة البلاد.

ولكن المحتل لم يتراجع عن نيته بالتمسك بالصلاحيات السياسية والعسكرية رغم قيامه بانتخاب مجلس للنواب وتشكيل حكومة وطنية بقيت هذه المؤسسات صوراً فارغة ليس لها أي مفعول يذكر حيث أن الأمر والنهي واتخاذ القرارات وممارسة الصلاحيات السيادية بقيت بيد المفوض السامي الأمر الذي أدى لتجدد الإستياء واستنكار موقف الغدر والدعوة إلى الوفاق والوئام ونبذ التفرقة التي حاول المحتل انتهاجها ليتمكن من السيطرة على الموقف وكان خير مثال على ذلك هو اغتيال الوطني الحر الدكتور عبد الرحمن الشهبذر وتسليط الأضواء بأن المنفذين بالعملية هم من خصومه السياسيين ونجح في تخفيف حدة المقاومة الفعالة للوطنيين الأحرار ولو إلى حين.

وفي غمرة الأحداث المتصاعدة نشبت الحرب العالمية الثانية وكانت سبباً لتراجع الفرنسيين عن جميع تعهداتهم وخاصة الغاء معاهدة الصداقة واعلانهم نظاماً للحكم المباشر عن طريق تشكيل حكومات موالية لها وادخال البلاد في مرحلة عراك وتجاذب سياسي لتتمكن من تنفيذ مخططاتها التي تخدم مصالحها خلال الحرب مع المحور. 

قسوة الحياة

ولابد من القول بأن ما طبقته فرنسا من إجراءات قاسية على المواطنين السوريين انعكست على حياتهم المعيشية وعانوا من شظف العيش والحرمان وفقدان المواد الأساسية للحياة ما يصعب وصفه ويمكن اعتباره ضرباً من الخيال. 

إن إعلان الحرب على المحور أدى إلى فرض حالات طارئة تمثلت ببيع الخبز الأسمر بموجب قسائم ومنع استيراد الشاي والبن والرز والسكر وجميع أنواع المحروقات البترولية وعدد كبير من المواد الأساسية وفرض تقنين لاستخدام الكهرباء ومنع استعمال المذياع ومصادرته وغيرها وغيرها... مع شيء هام وأساسي وهو تقييد الحريات والتشدد بتطبيق نظام الأمن والتجوال. 

ولابد من الإشارة هنا إلى أنه من نتائج هذه الإجراءات الشديدة ظهرت طبقة جديدة في المجتمع أطلق عليها أسم أثرياء الحرب الذين استغلوا ببشاعة وأنانية ويلات العوز والحرمان في أحتكار المواد ورفع الأسعار والاستخفاف بمشاعر المواطنين البؤساء.

العدوان الغاشم 

وقد استمرت هذه الحال حتى هزيمة فرنسا أمام ألمانيا حيث أعلن ممثل فرنسا الحرة في سورية استقلال البلاد وانتخاب رئيس للجمهورية وتأليف وزارة وطنية وإجراء انتخابات لمجلس نيابي ولكن المحتل الغاشم أبى تسليم الصلاحيات الخاصة بالجيش والأمور الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، بما عرف عنه من مراوغة ومماطلة في اتخاذ أي إجراء ينعكس على مصالحه الخاصة ورغم جميع المحاولات التي قام بها فشل في تنفيذ مخططاته أمام إرادة صمود الشعب ورجاله الأبطال وكشر من جديد عن أنيابه السامة بحملة استفزازية وارهابية من خلال عدوان غاشم حيث تم ضرب المدن الرئيسية وفي مقدمتها مدينة دمشق بالمدافع وقصف بالطائرات والتنكيل برجال الدرك والأمن كان أبشعها همجية ووحشية على المجلس النيابي حيث قامت قوات فرنسية مدرعة بالقصف العشوائي فهدمت واجهته وقتلت حاميته من رجال الأمن العزل والتمثيل بجثثهم بهجمية ووحشية يندى لها الجبين. 

واستمر العدوان الغادر مدة ثلاثة أيام بلياليها لم يتوقف إلا بتدخل القوات البريطانية. ندد العالم أجمع بهذا العدوان اللاإنساني وما قامت به فرنسا من وحشية في قتل السكان العزل وعمدت الحكومة السورية إلى عرض موضوع استقلال سورية وجلاء المحتل من أرض الوطن على عصبة الأمم المتحدة وتمت الموافقة وحصل الجلاء فيما بعد. 


رحمة السماء

ولابد هنا من القول أنه لولا العناية الألهية لكان العداون على المجلس النيابي كارثة بشرية لا توصف وقد حال دونها قرار رئيس المجلس الزعيم سعد الله الجابري تأجيل الجلسة المقررة في اليوم نفسه وفي الساعة ذاتها إلى موعد آخر حيث وجد بحكمته وسعة أفقه بأنه ليس من المحبب والمفيد عقد جلسة لا يحمد عقباها ولولا لطف الله لكانت فرنسا تخلصت من جميع الوطنيين الأحرار بضربة قاسمة.

تكريم الأبطال

وجدت أنه من المفيد بعد أن تناولت شرح الفترة الهامة من تاريخ سورية إبان الانتداب الفرنسي وحصول سورية على الاستقلال التام وجلاء المحتل عن أراضيها وطي صفحات مؤلمة في تاريخها النضالي بأن يتم الانتقال إلى التكلم باختصار عن مواضيع أخرى بأن أتطرق إلى الحديث عن زيارتين تاريختين الأولى قام بها الأمبراطور الألماني غليوم الثاني لدمشق والأخرى لقائد القوات البريطانية لورنس العرب لدمشق أيضاً والتماس الفرق الشاسع بين تصرفين يظهر بالأول حسن تقدير الأمور ووضعها في نصابها الصحيح ويظهر في الثاني الحقد الأعمى والنوايا الدنيئة من قبل قوى الشر. 

قرر امبراطور ألمانيا غليوم الثاني القيام عقب زيارته للسلطان العثماني عبد الحميد أن يعرج على مدينة دمشق ليشاهد معالمها وقد أحيطت الزيارة باهتمام كبير حيث أعطيت الأوامر السلطانية بإتخاذ جميع الإجراءات وتأمين جميع المتطلبات لتكون زيارة تاريخية يضرب فيها المثل. 

عمد والي دمشق ناظم باشا بوضع برنامج حافل يبهر الزائر الكبير فأقام في المهاجرين مقابل القصر مصطبة في أسفل جبل قاسيون بإطلالة تبهر الناظر لمشاهدة روعة وجمال المدينة الأخاذ وأقام أقواس النصر والزينات وفرش الطرقات التي سيمر بها صحبة الأمبراطور بالسجاد الأحمر الزاهي واختار لإقامته قصرين الأول يعود للأمير اسعد باشا العظم والثاني لآل اليوسف وقد تبارى الأثنان في إظهار أروع الاستقبال وطيب الإقامة فاحتار والي دمشق أيها يختار وخشية أن يقع الخلاف بينهما لما لا تحمد عقباه أمر بإتخاذ الإجراءات الفورية في تجهيز فندق "دامسكو بالاس" في حي جوزة الحدباء قرب جامع يلبغا وسط سوق تجاري دمشقي عريق يزهو بمصنوعاته ومنه ينطلق منه إلى دار الحكومة القريبة منه في ساحة المرجة وسط المدينة ينتقل بعدها بعربة خيل رئاسية لمشاهدة ما تزخر به دمشق من معالم أثرية وجوامع وكنائس وأسواق تجارية وغيرها. 

غير أن الهدف الرئيسي في الحقيقة هو زيارة ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي وقد تمت الزيارة وأظهر فيها كل احترام وخشوع ووقف صامتاً ينم عن تقدير واكبار لمواقفه البطولية ونضاله المستميت من أجل عزة وقدسية وطنه وقام بوضع اكليل من البرونز الأبيض مزين بنقوش ذهبية ومرصع بالجواهر البراقة على شاهدة القبر ودون في سجل الزيارة كلمة عبر فيها عن المكانة المرموقة والمشرفة التي يحظى بها كبطل وطني خلده التاريخ. 

وبقي هذا الأكليل وسام شرف حتى قام قائد القوات البريطانية لورنس العرب بنزعه عن ضريح البطل وأخذه بكل حقارة كغرامة حربية وهو الآن معروض في متحف لندن. 

ومن هذين التصرفين يبرز بشكل قاطع موقف كل من الرجال العظام والصغار. 

فضل العلم

ولابد لي هنا أن أشيد بالدور التعليمي الكبير الذي رسخه رجال العلم والتربية في نفوس الطلبة ليكونوا نواة النهضة والرقي في مرحلة البناء في وطن عاني من ويلات الاحتلال مما سبب تأخره ولو إلى حين في ركب الحضارة ولست بحاجة إلى التأكيد بأن المناهج التعليمية وأساليب التدريس قد وضعت لتحقيق هذا الهدف الكبير.

السيران الدمشقي

السيران تقليد شعبي لدى معظم عائلات دمشق فهو متنفسهم الوحيد وابتعادهم عن هموم الحياة وعناء العمل ليلتمسوا راحة الفكر والاستجمام حيث يتوجه الدمشقيون إلى الأماكن التي تتميز بخضرة الطبيعة وانسياب المياه للاستمتاع بمشاهد الطبيعة الجميلة. 

- هذا وأن التوجه الأول في فصل الربيع يكون إلى غوطة دمشق لتمضية يوم كامل في ربوع بساتينها وحقولها بين الأشجار المثمرة حيث تفوح رائحة أزهار المشمش والدراق والإجاص والخوخ والتفاح حيث يختارون ضفاف الأنهار للاستراحة على البسط التي يفرشونها على الأرض يتناولون ألذ الأطعمة التي تعدها النسوة من لحم مشوي بأنواعه والكبة والمتبلات والمقالي والسلطات بلذة وشهية يشربون بعدها الشاي أو القهوة ويدخنون النرجيلة ويلعبون الورق والطاولة بينما يسرح الصغار والنسوة يلعبن بالبرسيس ويستمعون من المذياع على أعذب الألحان والأغاني حتى المساء حيث يعودون أدراجهم إلى منازلهم وقد زال عنهم عناء العمل الأسبوعي. 

في حين أن بعضهم الآخر يقصد المطاعم والملاهي يجلسون على الطاولات بين الاشجار يتسامرون ويمارسون لعبة الورق والطاولة والشطرنج ويتناولون ألذ المأكولات التي يعدها مطبخ القهوة ويشربون المشروبات الساخنة والباردة. 

- أما التوجه الثاني إلى قضاء يوم كامل من الصباح حتى الماء في وادي بردى على ضفافه باستئجار ليوم واحد المصاطب المنفصلة عن بعضها بالقصب أو القماش لاسقف لها حيث أغصان الأشجار تحجب أشعة الشمس يجلسون على الطاولات باتجاه النهر للاستمتاع بتدفق المياه يتناولون الذي يحضرونه معهم أو يعمدون إلى الطهي والشواء.

- أما السيران الخفيف النظيف الذي يتجه به الدمشقيون إلى الربوة التي يقال عنها رئة دمشق واستراحة أهلها منذ أقدم السنين وما زادها قيمة المحافظة على ورنقها وجمالها رغم بعض التغيرات البسيطة التي لم تؤثر على روادها من المواطنين. 

تقع الربوة في مضيق جبلين يحتضنان نهر بردي وفروعه السبعة وتشتهر الربوة بمقاهيها المنتشرة على سطحي الجبل وعلى ضفتي النهر أهمها قهوة أبو شفيق - خود عليك – العجلوني - الوادي الأخضر – الشعار- القصر- الفردوس.

وسأتناول شرح أثنتين هما قهوة "خود عليك" وقهوة "أبو شفيق" حيث تقع قهوة خود عليك في الشادروان وسميت كذلك لأن الداخل إليها يطلب من كل جالس مكاناً بقوله وسع لي جنبك أي خود عليك بسبب الازدحام الشديد لجمال موقعها. 

أما الثانية فهي من اقدم وأشهر المقاهي تقع على مرتفع يشاهد الداخل إليها شلال الماء الذي يتساقط من أعلى الهضبة على ساقية صغيرة وتمتد مساحتها حوالي 15 متراً تتوزع الطاولات على جوانب برك الماء وعلى المصاطب " الخشبية التي أقيمت فوق نهر يزيد بأسلوب تقليدي معين حيث يمضي الرواد يوماً كاملاً تحت ظلال أشجار الصفصاف والزيزفون يتناولون الأطعمة اللذيذة ويشربون الشاي والقهوة بعضهم يتسامر والبعض الآخر يلعب الورق أو الطاولة ويدخنون بالنرجيلة حتى غروب الشمس ودخول الظلام فيما تصدح الموسيقى والأغاني والأهازيج وتسمو بهم الأجواء الخلابة إلى نسيان أنفسهم وما يحملونه من هموم الحياة.

صخرة الحب

ولابد من القول هنا بأنه في الربوة الصخرة الرابضة على جبليها المطل على المقاهي وقد عرفت باسم المنشارة ثم أطلق عليها أسم صخرة الحب بعد أن كتب عليها أحد العشاق الدمشقيين في الخمسينات عبارة "اذكريني دائماً" ورمى بنفسه من فوقها منتحراً بسبب رفض أهل حبيبته تزويجه إياها وعندما علمت الحبيبة بقصة الانتحار بادرت إلى كتابة عبارة "لن أنساك" وانتحرت مثل فتى أحلامها. 


لعبة السيف والترس

تملك دمشق الكثير من الألعاب الشعبية القديمة التي كانت تسليهم وتمتعهم في أوقات فراغهم مثل " السيف والترس – النحلة- التباطح – التناصر" وتلك الألعاب توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل. 

لعبة السيف والترس التي تتميز بإظهار صفات الرجولة والقوة والتحدي والخطورة لدى الرجال وتتطلب قوة عضلية وتركيز عقلي في أدائها. 

تبدأ المباراة بتقدم شخصين يرتديان الأزياء التقليدية القديمة إلى وسط الساحة يتمنشق الأول فهما سيفاً والآخر ترساً (درعاً) يقومان بادىء الأمر بحركات استعراضية مترافقة مع نغمات الموسيقى والألحان وبعد أداء التحية والسلام وتبادل القبل مع بعضهما ينهال الواحد منهما على الآخر بضربات سريعة وخاطفة يظن للجمهور المتحمس أن أحدهما سيقضي على الآخر لا محالة وتنتهي المعركة فجأة بقبلة على الخد تعبيراً على الصلح بينهما والأعلان عند انتهاء النزال ويقابلهما الجمهور بتصفيق حاد اعراباً عن إعجابهم بالرجولة والشهامة والقيم المثلى.

وحرصاً على الحفاظ على هذا التقليد الشعبي المتوارث عبر الأجيال فقد أنتشرت لعبة السيف والترس في العراضات الشامية التي ترافق العروسين حيث تمارس هذه اللعبة على أصولها من قبل متمرسين في ساحة صالة العرس على أنغام الأهازيج والألحان والأغاني وقرعات الطبول على نحو يثير الإعجاب بهذا التراث الخالد.

شجــون

كما أنه من قبيل المنغصات التي كان قد شهدها الحي في ظروف غامضة أذكر ثلاثة منها تركت الجميع في حيرة من أمرها رغم أنه من قبيل القحيقة المؤكدة أن الحي كان مضرب الأمثال في التعايش المشترك بين جميع فئاته القائم على أساس المحبة والاحترام المتبادل.

ولابد من الذكر أن الأكثرية المطلقة لعائلات المحتل كانت تقيم بينها ولم تلق إلا ما يجب أن يقابل به الضيف بألا يتحمل وزر غيره وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى مع كون قدسية الوطن وكرامة أبنائه هي الخط الأحمر لا يجوز تجاوزه مهما كانت الظروف والأحوال. 


  • الحادثة الأولى: أنه في صبيحة أحد الأيام شوهد تجمهر غير عادي أمام بقاليات الحي تبين من خلال السؤال أنه وجد البقال مذبوحاً في دكانه لأنه كثيراً عندما يتأخر في الأمسية ينام بالمحل وأن رجال الأمن والتحقيق تبحث في الأدلة التي تكشف عن الفاعل وقيل وقتها أن دوافع الجريمة هي السرقة ورغم التحقيقات لم يعرف الفاعل وقيد الحادث ضد مجهول. 


  • الحادثة الثانية: عند عودتنا من المدرسة مساء لأن الدوام كان صباحياً وبعد الظهر شوهدت جثة على قارعة الطريق مغطاة بشرشف أبيض تبين أنها تعود لفتاة في ريعان الصبا ألقت بنفسها من الشرفة لتتخلص من الحياة بمحض ارادتها لأنه ضاق عليها العيش وملت حياة الخدمة في بيوت الآخرين وقيد الحادث أنه انتحار لدوافع شخصية. 


  • الحادثة الثالثة: وجد أحد تجار الحنطة أمام عتبة داره مقتولاً بعدة طعنات بآلة حادة تبين أنه قد تعرض للقتل لسلبه قيمة حمولة من الطحين يستوردها من المحافظات المجاورة وقد تبين أن الفاعلين كانوا ثلاثة من عماله تمت محاكمتهم وأنزلت بحقهم العقوبة المناسبة. 

أما الأمر المعاكس الذي يدعو إلى البهجة والسرور هو تآلف سكان الحي مع بعضهم بعضاً في السراء والضراء. 

وخير مثال على انصهار الفوارق على اختلافها هو انتساب أبناء الحي لنهل العلم في المدارس المختلطة "الفرير – الفرنسيسكان - اللاييك" في جو ملؤه المحبة والوئام وكذلك بعضاً من أبناء الحي الأجانب تلقيهم العلم في المدارس الرسمية هذا وأن هذه الحوادث العابرة لم تؤثر على أواصر الصداقة والمحبة القائمة بين العائلات.


ابتهــاج

- بعد نيل الاستقلال شهدت البلاد تطوراً كبيراً في جميع المجالات الاقتصادية والزراعية والصناعية وبدأ الغزو العمراني الحديث وامتد انتشاره في حقول وبساتين مدينة دمشق في كل الاتجاهات بمظهر حضاري يختلف كلياً عن النسق والفن الذي تميزت به دمشق القديمة أضفى عليها جمالاً جديداً آثاره بارزة للعيان في مختلف ربوع دمشق وحرمها من ربوع خضارها الزاهي. 

كما تم اعتماد مبدأ توفير المتطلبات الأساسية دون حاجة إلى الاستيراد وذلك بإقامة المعامل لمختلف الصناعات للأدوات الكهربائية والنسيجية والمطاحن وصوامع الحبوب ومعامل حفظ الخضار والفواكه ومعامل الصناعات الحديدية ومشاغل الصناعات اليدوية السجاد والبسط والحصر والأرائك وغيرها وازدهرت التجارة والزراعة والصناعات اليدوية. 

ومن قبيل تدليل توفر السيولة النقدية بين المواطنين وخاصة ذوي الدخل المحدود أضرب مثلاً شخصياً وهو أنه عند بدء تعييني في سلك التعليم صرف راتبي الشهري وآخر استناداً إلى تشريع يقضي بدفع الرواتب والأجور للعاملين في الدولة في مطلع الشهر لأسباب ودواعي اقتصادية لمحاربة التضخم النقدي. 

وابتهاجاً بهذه الفرحة وادخال السرور إلى عائلتي رأيت أن أقدم هدية متواضعة عربوناً لوفائي وامتناني للرعاية الكريمة فاشتريت وكان ذلك في أوائل العقد الخامس براداً أذكر ماركته حتى الآن "وستنغ هاوس" وغسالة أوتوماتيك آلية ماركة "هوفر" تقسيطاً بعد دفع الدفعة الأولى التي كانت في حدود ربع الثمن. 

وما زلت أشعر بنشوة السعادة التي غمرتني وقتها عندما شاهدت علائم الفرحة والسرور على وجوه العائلة وبذلك أسهمت بجزء بسيط في رد الجميل بتخفيف العناء عن ربة البيت عند الغسيل وحفظ الأطعمة ولم يقتصر هذا الأمر عند هذا الحد بل تناول مجالات أخرى كان لها دورها في تأمين بعض المتطلبات الأساسية مما تحققت معه البهجة والمتعة.

* * *

بحكم طبيعة عملي في المرحلة الأولى بالتعليم وتخصصي المسلكي بهذا المجال فقد تم اختياري لأكون عضواً في الوفد السوري الذي سيتناول دراسة توحيد المناهج وتحديد أساليب التربية والتعليم في البلاد المجاورة لسورية وتبين من خلال الطروحات أن التوجه كان منصباً لمحو الأمية ونشر مبادىء القراءة والكتابة التي تزايدت خلال الاحتلال العثماني والغربي وانطلاقاً من مراعاة أوضاع كل بلد عربي شارك في الاجتماع تم وضع عدة مناهج تدريسية تختار الدول منها منهاجاً يناسب كل حالة. 

وبالنسبة لسورية ودول أخرى رئي الاستمرار بتطبيق المنهج الذي تسير عليه العملية التعليمية لتغطيته جميع الجوانب وفق الهدف المنشود.


زيارات خاصة

لم تخل هذه الفترة من الزمن من القيام من وقت لآخر لزيارات والسفر للترفية عن النفس من ويلات الأيام القاسية التي أعمت القلوب وأدخلت الحيرة في النفوس. 

وحيث ِأنني قد أنهيت المرحلة الدراسية بجميع مراحلها ودخلت معترك الحياة رأيت أنه من المفيد توسيع آفاق التعرف بأساليب الحياة في بعض البلاد العربية والأجنبية المجاورة وهذا ما كان.

- أبدأ التحدث عن تحليق صغير في أجواء سماء مدينة دمشق بالطائرة كانت من قبيل الصدف النادرة وضرباً من الخيال وتتلخص أنني كنت أتبادل الزيارة مع أحد أبناء الحي في الدراسة ونتعاون معاً على سبر مكونات حل مسائل في الرياضيات لتخفيف المعاناة حيث كانت مادة جديدة وأمورها معقدة صعبة. 

في إحدى الزيارات الصباحية حصلت داخل الدار حركة غريبة توحي بوجود شيء غير عادي فسألته عن السبب فقال لي أن عمه قد قام بزيارة مفاجئة وينوي المغادرة قد سيذهب لوداعه بالمطار فطلبت إليه أن يتفرغ لذلك وسمح لي بالذهاب لموعد آخر  وعند خروجي صادفني عمه في الصالون وأحب التعرف عليّ وبينوا له الغرض من الزيارة فأصر على مرافقة ابناء أخيه في التجول بالطائرة الشراعية بجولة في سماء دمشق إن لم يمانع بذلك فالفرصة لن تتكرر وكان ذلك مدهشاً لروعة وجمال المنظر المبهر لن يمحي من مخيلتي أبداً ولأول مرة في حياتي أشاهد طائرة شراعية بجناحين ومحملين وجسم بطول ستة أمتار يحتوي على عشرة مقاعد للطيران لمسافات قصيرة للتنقل بين المدن المتقاربة من حيث المسافات وتلبي الحاجات الملحة. 

- الرحلة الثانية: كانت لزيارة شقيقاتي المتأهلات في الأردن الشقيق وحقاً أنها كانت في روعتها ما يصعب وصفه لقد لمست فيها حسن الضيافة والاستقبال والترحاب باكرام الضيف من البعيد قبل القريب. 

لقد أتاحت لي هذه الزيارة مشاهدة ما يتمتع به هذا البلد من جمال للطبيعة وآثار خالدة تبرز معالم تاريخه العظيم ولا أنسى أبداً تجوالي في وادي الأردن ومشاهدة انسياب نهر اليرموك الخالد في بساتينه وحقوله بشتى أنواع الخضار والفواكه ورؤية اطلالة مرتفعاته على بحيرة طبريا في فلسطين ولا أنسى مذاق السمك الشهي الذي تناولته على ضفاف البحر الميت.

أما هبة السماء في هذه الزيارة كانت لمدينة القدس الشريف وأداء صلاة الظهر في المسجد الأقصى أولى القبلتين وأنا في غنى عن وصف روعته التي تعجز الأقلام عن الإحاطة بها وإن الذي أدمى قلبي لاحقاً الحريق الذي لحق في منبره الأثري الذي لا مثيل له في العالم جمالاً وروعة في الصنع والزينة بالآيات القرآنية الكريمة. 

وكانت خاتمة الزيارة لمسجد قبة الصخرة التي عرج منها الرسول إلى السماء. 

- الرحلة الثالثة وكانت لمصر العربية حيث تجدد لقائي مع رفيق عمري في الدراسة الصباحية على ضفاف بردى في مركز عمله في القاهرة.
لقد وضع لي برنامج زيارة يسمح لي بمشاهدة تراثها الخالد الذي يبهر الألباب وأكتفى بتعداد الأمكنة لأن ما تتصف به غنى عن التعريف وأبداً بزيارة أهرامات الجيزة وقيامي بالدخول إلى داخل الهرم خوفو بممر طويل أنحناء حتى فسحته الداخلية ومشاهدة ما فيها من نقوش وتماثيل وآثار فرعونية تبهر الالباب باعتبار أنه كان يدفن بها الملوك الفراعنة.
وقد أثار دهشتي تمثال المخلوق الأسطوري "أبو الهول" بجسم أسد ورأس انسان وهو أهم المنحوتات الضخمة على هضبته بالجيزة في الضفة الغربية من نهر النيل. 

وأرثي حال أولئك الجهلة من قادة نابليون حين أمروا بضرب أنفه الطويل وتدميره بالمدفعية حتى ذهبت روعته وأصبح أفطس الأنف. 

وليست القاهرة بحاجة إلى التذكير بالأماكن السياحية فهي أكثر من أن تعد وتحصى لأنها مهد الحضارات وأكتفى بالتحدث عن إعجابي لمكانين من أهم معالمها.

الأول منها جامع الأزهر الشريف الذي هو أهم المساجد في مصر وأشهرها في العالم الإسلامي وهو جامع وجامعة منذ أكثر من ألف عام بني في زمن الفاطميين وسمي بالأزهر تيمناً بالسيدة فاطمة الزهراء أبنة رسول الله الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم وبناؤه أية في الإبداع والرونق الجميل ومآذنه الأربعة ذات الطابقين الشامخة نحو العلا وقبته ذات الألوان الزاهية واكتفى بالوصف عند هذا الحد وأقول أنه بحق رمز من الرموز الإسلامية في العالم.

أما الثاني فهو سوق خان الخليلي فهو من أروع اسواق القاهرة السياحية القديمة ويتميز بوجود البازارات والمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي وبشكل خاص مقهى الفيشاوي والخان في الحقيقة صرح تجاري هام في تاريخ القاهرة بقي محافظاً على معالمه عبر العصور يزخر بكنوز وتحف نادرة مصنوعة بأيد مهرة ولعل أجملها أوراق البردي التي تحمل كلمات هيروغليفيه ونقوش باللون الأزرق تحكي باختزال مدهش أجمل حكاية عاشقين في التاريخ " أيزيس وأوزوريس". 

هذا وأن الاستمتاع بمناظر الطبيعة الغناءه وانسياب نهر النيل فيها يدعو إلى زيارة القناطر الخيرية فهي جنة مصر التي يتفرع فيها نهر النيل إلى فرعين فرع رشيد وفرع دمياط وقد بناها محمد علي باشا لتتحكم في تدفق المياه في دلتا النيل وتتميز بحدائقها ومنتزهاتها الخلابة. 

- الزيارة الرابعة: وكانت إلى مدينة بغداد عاصمة العراق الشقيق مدينة تاريخية عريقة يخترقها نهر دجلة وهي غنية عن التعريف كونها منارة العلم وملتقى العلماء والأدباء والشعراء عبر العصور غنية بتراثها الحضاري من قصور ومساجد غاية في الروعة أهمها المسجدان التاريخيان "الإمام الأعظم والإمام موسى الكاظم" وأخرى لا تقل شأناً جامع الرصافة وجامع المهدي وكلها تتميز بقبابها الرائعة بأشكال هندسية أو نباتية تبعث في النفس الراحة والهدوء.

ومن الجميل زيارة مدينة بابل التاريخية ومدن العتبات المقدسة (الكوفة وكربلاء) وبقايا سور بغداد وأبوابها القديمة ومدينة سامراء وقصورها الخالدة وأنصح لكل زائر لمدينة بغداد أن يتناول على ضفاف دجلة أكلة سمك المسكوف الذي يحضر بطريقة تفتح الشهية.
- الزيارة الخامسة وكانت لتركيا حيث زرت مدينة أنقرة العاصمة وشاهدت ضريح أتاتورك الرائع ومعالمها التاريخية القديمة وحديقة الحيوانات وما فيها من مخلوقات حيوانية من غابات آسيا وأفريقيا وبلاد حارة وباردة تخرق الألباب وتذكر بالقدرة الألهية كما تجولت في أسواقها القديمة الحافلة بمعروضاتها المبهرة. 

كما زرت مدينة استنبول وشاهدت معالم قسميها الآسيوي والأوربي من قصور ومتاحف ومساجد أروعها جامع السليمانية والمسجد الأزرق وجامع القسطنطينية والمتاحف والخدمات والمنتزهات والساحات ساحة تقسيم المشهورة وأسواقها سوق المسقوف والمصري وسوقي محمود باشا وعثمان بك وغيرها وأؤكد على مشاهدة الآثار الإسلامية والعربية في متحف البوسفور الذي يزخر بنفائس اصلية للخلفاء الراشدين والصحابة والمخطوطات الصحيحة وأسلحة قادة الفاتحين. 

توضيـح

- هذه لمحة عن جولات سياحية خاصة كانت  في بداية دخولي معترك الحياة العملية بعد انتهاء مرحلة الدراسة تلتها زيارات لاحقة لبلاد آسيوية وافريقية وأوروبية جاء ذكرها في مذكراتي السابقة. 

ولم أشأ أن أعدد زياراتي للبنان الشقيق فهي كانت أشبه بالإقامة الدائمة عند شقيقتي المتأهلة ببيروت ولا أنسى أبداً الذكريات الحلوة التي أمضيتها في مصايفة الجبلية مستمتعاً بجمال لبنان الأخاذ.

مقالب الطفولة

لم تخل بعض الحصص الدراسية في المرحلة الإعدادية من حدوث أمور تدعو إلى العجب والدهشة ولكنها تحمل في طياتها إشارات استفهام أهي من قبيل البراءة أم من الخبث الشيطاني الذي اشتهر به بعض الطلبة.
وسأقوم بذكر طرفتين حصلت إبان مرحلة الدراسة الإعدادية في الصف السابع أو الثامن في أواخر العقد الرابع.

1- حادثة الأفعى: كان في المنهاج التعليمي حصة النشاطات تتمثل بالرياضة أو الرسم والأشغال اليدوية أو الموسيقى. 

وقد حدثت هذه الطرفه في حصة الموسيقا حيث أنه كنا نستمع إلى قطعة موسيقية يعزفها الأستاذ على الكمان وهو مندمج تماماً وكما يقولون أخذه الحال فشاهدنا وكنا جالسين على المقاعد "بحية رمادية اللون" تخرج من تحت المنبر وتتوضع أسفل اللوح الخشبي فوق الطباشير البيضاء فاعترانا الذهول وجمدت الدماء في عروقنا فما كان من أحد التلاميذ أن صرخ بأعلى صوته انتبه يا أستاذ الحية جانبك فارتعدت فرائصه وبدأ عليه الخوف وطلب إلى الجالس قرب الباب أن يحضر المعيد ولما حضر سأله ماذا تريد أن أفعل شو أنا صياد أفاعي وهم بالرجوع فما كان من الآذن وكان شاباً ذا قوة وعزيمة أن اقترب إل مكان توضع الأفعى وأمسكها من تحت رأسها ضاغطاً على فمها كيلا تلدغه بسمها وخرج يحملها وقد تدلى ذيلها وتحرك بشدة فقال له المعيد : 


لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا

فضحك الآذن وتوجه إليه قائلاً: تعال وخذ طربوشي. 

2- ما الزائدة: قي حصة اللغة العربية كان الأستاذ ينهي الموضوع بإعراب بيت من الشعر تطبيقاً لما تم شرحه وفي إحدى المرات صدف أن مرت "ما" بعد "إذا" وعربها بأنها للنفي فما كان من أحد التلاميذ الأقوياء في النحو أن اعترض قائلاً بأنها زائدة فأجابه الأستاذ يجوز فيها الوجهان فما كان من التلميذ أن قال له لقد ورد في ألفية ابن مالك ما يلي أفيدك فائدة ما بعد إذا زائدة فلا مجال للنقاش. ولما انتهت الحصة ودعنا الأستاذ منصرفاً وكانت آخر حصة له في المدرسة لانتقاله إلى مدرسة أخرى وفعلاً كانت حادثة بشعة فيها نوع من التطاول وتجاوز الحدود.

حظ عاثر

الحياة كما يقولون: "قسمة ونصيب" ويا أبن آدم تركض ركض الوحوش غير رزقتك ما بتحوش.

أحببت أن أبدأ هذه الزاوية بهاتين المقولتين لأذكر أن الإنسان في هذه الحياة عليه أن يقنع بما قسم له وألا يكون كالطائر الأهوج الذي يتنقل من غصن إلى غصن ورزقه أمامه. 

جربت حظي في أوائل حياتي بأن ألتمس العمل الحر ولكن قدري كان الالتحاق بالسلك الوظيفي ولكن طموحات المرء تطغى عليه وتدفعه إلى تكرار المسعى لتحقيق رغباته. 

وهذا ما حصل معي وسأورد ثلاثة وقائع كان الباب موصداً فيها بوجهي ولم أتمكن من بلوغ الهدف . 

1- ممارسة العمل الحر:  في أواخر الخمسينات أحببت أن أستثمر مبلغاً من المال ادخرته من رواتبي وتعويضاتي في المجال التجاري فعرفني صديق لي بتأجر قال عنه أنه تقي وورع وأمين فنقدته المبلغ وبعد مضي ثلاثة أشهر أتاني قائلاً بأن الصفقة التجارية التي شاركت بها كانت حليباً مجففاً" ورغم جميع محاولاته لم تجد سوقاً لها وطلب إليّ الرأي فأجبته بأن يتصرف بما يمليه عليه الموقف ويتخذ كل ما من شأنه الوصول إلى الرأسمال وبعد مدة أتاني وطلب الرأي حول الاستمرار أو الانسحاب فأجبته بدون تردد أعد ‘ليّ مالي وحسبي الله ونعم الوكيل وبذلك كان نصيبي بعد عام من الانتظار أحلام خلابة بينما قطف التقي الورع ثمن نشاطاته على حساب الغير والأمر يومئذ لله الواحد القهار.

*   *   *

2- ثوب الأبرياء: انتشرت في دمشق في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات ظاهرة إحداث معاهد خاصة لتقوية المواد الدراسية المقررة في منهاج الصفين الإعداد والثانوي فاتفقنا ثلاثة من خريجي معهد التربية فتح معهد لتعليم اللغة الانكليزية و تقويتها ومن قبيل الصدف عينت بوظيفة عامة وقعت على وثيقة المقبول عدم ممارستي أي عمل تبعي آخر وكان لي صديق نشأت معه وبيني وبينه مودة وثقة عالية عرضت عليه أن يكون أحد الثلاثة في إنشاء المعهد بشكل صوري وسأتكفل بجميع المتطلبات المالية وسأقوم بجميع المهام الادارية والمالية وسيقتصر عمله كمراقب بالمعهد ثلاثة ساعات يومياً ويكون نصيبه 35% من الارباح الصافية فقبل وتم الأمر حسب الأتفاق وانطلق العمل في المعهد وقطف ثماراً أدخلت في نفس صديقي الطمع بالاحتفاظ بحصة الشراكة ضارباً عرض الحائط بما تم عليه الاتفاق مستغلاً عدم وجود الدليل الذي يعيد لي حقي وكان له ما أراد وشفى غليله وبذلك تذكرت ما قيل في النفس البشرية: 

لا خير في ود امرىء متلون        إذا الريح مالت مال حيث تميل

*  *  *

3- آخر السهام: حصلت على حكم قضائي يهدف إلى رد مبالغ اقتطعت من تعويضي باجتهاد خاطىء أو بالأحرى تعسفي من المرجع المالي لم يرجع عنه رغم صراحة النصوص القانونية.

صرفت التعويضات بحكم القضية المقضية وأتاني أحد زملائي واقترح أن أشاركه بتجارة الزيت لأنه أبرم صفقة رابحة ولي منها النصف وأمام اغراءاته نقدته نصف التعويض وحصلت منه على وصل أمانة. 

وفي طريق عودته من مكان الشراء تعرض لحادث ذهب ضحيته ولم أعرف ما آلت إليه شحنة الزيت. 

وبذلك ذهب الحلم أدراج الرياح. 

وبعد هذه المحاولات الفاشلة التي قمت بها كان عليّ منذ البداية الامتثال إلى قوله تعالى : "وفي السماء رزقكم وما توعدون" . 

وما أوردته كان من قبيل إظهار طبيعة النفس البشرية التي تكون ضحية الطمع ضاربة عرض الحائط بالمثل والقيم العليا التي يجب أن يتحلى بها المرء مهما تعرض للمعريات.

شجون

عود لذي بدء للتحدث عن الآثار التي نجم عنها تبديل النسيج العمراني في وسط مدينة دمشق لأنه سبق الإشارة إليه بمعرض التكلم عن مرحلة معينة في ذكرياتي السابقة ولكنها في الحقيقة لم تشف غليلي إطلاقاً لأن الجرح في القلب كان دامياً لما آلت إليه المنطقة من حيث القضاء نهائياً على مظهر لا مثيل له في العالم. 

إن تمسكي بالمعالم الأثرية نابع من حرصي الشديد على الحفاظ على كل ما هو ثمين لا يعوض ولا يستهان به باعتباره شواهد خالدة لبلاد مهد الحضارات القديمة.
ومن أجل توضيح الصورة أحب هنا تقديم وصف حقيقي يوسط مدينة عريقة يبين عما كامن عليه قبل أن يتناولها معول لهدم العشوائي دون النظر إلى الناحية الجمالية لفنون معمارية تدل على ذوقٍ وجمال رفيع.
ومن خلال الوصف والتصور الخيالي لها ومشاهدة الوضع الذي آلت إليه الآن من مبان حجرية عادية وساحات وحدائق وجسور يشاطرني الرأي بأنه كان من الحكمة وضع الدراسات المعمقة للتطوير والتحديث مع الحفاظ على النواحي الجمالية وإبرازها لتبقى مفخرة للأجيال الصاعدة. 

أرجو الا يؤخذ ذلك بأني من الرعيل الذي يحرص على القديم اعتباطأ وأن تبياني النواحي الجمالية للبقعة التي زالت من الوجود كانت موضع انبهار لكبار ملوك أوروبا وخاصة أمبراطور ألمانيا غليوم الثاني في أوائل القرن المنصرم حيث عبر في سجل الزيارات عن النواحي الجمالية الخارقة للأماكن التي زارها في دمشق وبشكل خاص محل إقامته فيها التي كانت من قبيل الصدف نفس الأمكنة التي تتناولها الهدم وزالت من الوجود. 

وسأقدم الآن وصفاً لتلك المعالم آمل أن تكون على بساطتها لأول وهلة مقبولة في اعطاء فكرة وتصور حقيقي لأنها صادرة عن شاهد عيان أقام فيها مدة تزيد من ثماني سنوات باعتبار أنها كانت في مركز عملي في التربية والتعليم بمدرسة معاوية الابتدائية الواقعة في البحصة خلف دار الحدلية وجامع بليغا التاريخي وغرب سوق العتيق وجنوب جوزة الحديا حيث أنه بموقعها الاستراتيجي كونها قريبة من وسط دمشق ساحة المرجة ووجودها في حي عريق أتاحت له فرصة التجوال ومشاهدة ما تمتاز به من جميع النواحي.

في مدخل المدرسة على اليسار يقع فندق " أمية الكبير" الذي ما زال قائماً ويحيط به محلاته التجارية تأتي بعدها صالة سينما "زنكوغراف" ثم بناء فندق "الزهور" ثم أبنيته ذات الطابقين ومحلات تجارية في الأسفل وكان أبرزها محل صناعة المعجنات (الكاتو –البوتيفور – البسكويت أقراص جوز الهند – العجوة) والأشرب الساخنة في الشتاء المصنوعة من الحليب ( كشك الفقرا- المحلاية – السحلب- رز بالحليب) وفي الصيف مختلف أنواع البوظة والليمون الجامد وشراب التوت الشامي والتمر هندي " وفي صدر الطريق بائع الفلافل المشهور باسم " فلافل المصري" وإلى جانبه في مدخل البحصة الجوانية عيادات الأطباء والمحلات التجارية والغذائية وعلى الجدار الملاصق للمدرسة من الناحية الشمالية تنتشر محلات باعة الخضار والفواكه واللحم الضاني وباعة الحمص والفول والمخلل بأنواعه حتى مدخل باب المدرسة الرئيسي الذي ترتفع منه مئذنة جامع بليغا التي لا مثيل لها في فن العمارة المبهر سوى أخت مشابهة لها  بالتشابه في الجامع الأموي الكبير من الناحية الشمالية المتألقة بروعتها.

أما المدخل الرسمي للمدرسة فكان قبالة السينما حيث يوجد على يمينه غرفة الإدارة وعلى شماله غرفة انتظار ومكان إقامة الأذنة والحراس ثم مدخل طويل يؤدي إلى الباحة بمساحتها الكبيرة التي تتجاوز الـ 2،900 وعلى جوانبها الثلاثة الغربية والشمالية والشرقية تقع الصفوف في الطابقين الأسفل والعلوي وعددها يزيد عن 15 صفاً كبيراً من حيث المساحة.
وفي الحقيقة فإنه يمكن القول بأن هذه المدرسة صرح تربوي له تاريخه الطويل في تعليم أبناء مدينة دمشق من مختلف الأحياء ويزيد عدد طلابها عن 500 طالباً تخرج منها عدد كبير لا يستهان به عبر العقود الماضية. 

أما من الناحية الجنوبية فقد أقيم جدار طويل يفصل المدرسة عن الجامع ومن قبيل الاستنتاج وليس المؤكد أن المدرسة كانت نزلاً للوافدين لطلب العلم والمعرفة من خارج سورية والدراسة في المركز الذي كان تابعاً للجامع وقتها ومما يؤكده ما قيل بأن مكتبة الجامعة الأدبية والعلمية والتاريخية قد سلمت إلى المجمع العلمي عند هدمه. 

أما المدخل الرئيسي لتلاميذ المدرسة كان يقع إلى شمال حي البحصة الجوانية قبالة بابها الخشبي المشابه لباب مسلسل "باب الحارة" حيث كانت البيوت الدمشقية بفنها المعماري الأنيق تقع بداخله ملاصقة لبعضها تفوح في أجوائها روائح أزهار الليمون والكباد والنارنج والياسمين وكأن الباب يغلق بشكل اعتيادي عند منتصف الليل . 

أما من الناحية الغربية للمدرسة فكان يقع حي البحصة البرانية حيث أن دوره كانت موزعة على أرض مربعة ومقسمة إلى تجمعات لكل منها طرقاتها الخاصة بها ومن حيث الشكل كانت مجموعة من العمارات الدمشقية بفن عريق وكان الطريق الرئيسي لها يقع في الناحية الشمالية فيه عدد من المحلات التجارية وعيادات الأطباء ومكاتب الرسامين والخطاطين والأستشاريين وفي وسطه كان بناء مدرسة التجهيز الثانية للبنات وفي صدر المدخل كان هناك بناء جامع الطاووسية الذي يتميز بمدخله الجميل وحوضي الماء على جانبيه وترتفع مئذنته الصغيرة الحلوة في تصميمها وقد هدم الجامع وبني على أرضه جامع حديث بنفس الأسم ولكن بفن معماري حديث لم يحافظ على رونق الجامع العريق وقد أصبح مدخل الجامع بعد هدم حي البحصة والمحلات الكائنة فيه وخاصة مقهى البرازيل ملتقى الأدباء والشعراء تجاه سينما الأهرام. 

أما الشوارع الأخرى في ساحة المرجة فقد زالت وبقي منها مدخل سينما غازي التي ما زالت قائمة حتى الآن بينما زالت قهوة الكمال وبقي المدخل الضيق لمسجد دنكز الجديد بينما هدمت مئذنته الرائعة ويقال أنه في عملية التطوير زالت أثرية مآذن ليس لها مثيل في تصميمها وعمارتها مئذنة " جامع يلبغا- مئذنة جامع دنكر – مئذنة جامع الورد في مدخل سوق ساروجة من ناحية عين الكرش". 

أما زقاق رامي فقد هدمت أبنيته ومحلاته التجارية وزالت من أوسطه "سينما ومسرح السنترال" وأصبحت محل حلويات الشرق الآن في حين بقيت في مكانها بقية الفعاليات في بناء العابد (دائرة الأحوال المدنية – دور الترجمة - المحاسبون القانونيون - كتاب العرائض – مختبرات التحليل) وكذلك مطعم "الصدّيق" الشهير بالشاورما والكبب المشوية والمقلية والسلطات والمقبلات المتنوعة والقطايف العصافيري وما زال قائماً حتى يومنا هذا وكذلك باعة الحلويات والمناسف بأنواعها ( مهنا- علوان- أسدية). 

أما طريق السنجقدار فقد اصبحت دوره وأبنيته حديثة وزالت مطاعم دمشق المشهورة بمطبخها الفريد من نوعه (الأمراء – الأدلبي- سحلول- النحاس) كما هدم وزال حمام "الراس" الذي كان في نهايته جانب مدخل السروجية وتبدلت معالمه نهائياً بينما حافظ جامع السنجقدار على وضعه في الركن الجنوبي . 

أما حي الشالة الذي يقع شمال حي البحصة الجوانية فقد هدم كلياً وزالت معالمه تماماً أما زقاق جوزة الحدبا فقد زالت معالمه وخاصة محلات صنع القباقيب الخشبية وبعض الصناعات اليدوية وهدم فندق "دامسكو بالاس" الذي أقام فيه امبراطور ألمانيا غليوم الثاني خلال زيارته مدينة دمشق. 

وهنا لابد من القول أن تلك الأمكنة التي تم هدمها وإزالة معالمها كانت صورة حية لتنوع فن العمارة من جهة إضافة إلى إزالة محلات تقدم خدمات وفق اسلوب شرقي خارق وتميزت بتنوعها كالمطاعم والأفران الشرقية وباعة المرطبات وصناعة المعجنات ومحلات صنع المخللات بأنواعها المختلفة كما ذهبت إلى غير رجعة محلات الصناعات اليدوية التقليدية المتوارثة عبر الأجيال.

أما بالنسبة للجهة الشرقية للمدرسة فكان المدخل الرئيسي لجامع "يلبغا" وعلى جانبي المدخل يوجد حوضا الماء الذي يتدفق بغزارة من فوهتين نحاستين صفراء لتبقى الأحواض ممتلئة بالماء يتزود منها باعة الخضار والفواكه وغيرها وتبقي ساحة سوق العتيق مكشوفة على مد النظر حيث تقع شمالها البقاليات والمطاعم . وكان في وسط المحلات يوجد محل الملقب بـ " برو العطار" صاحب الشهرة في صنع الأدوية النباتية من الأعشاب وكان مختصاً بتركيب الدواء النباتي بكل دقة وعناية وزاع صيته في كل مكان ويقصده كل محتاج وهو أشهر من علم لا مثيل له في اختيار العشبة المناسبة لكل داء. 

أما في وسط السوق فكان يوجد محل بائع فتات المقادم والكوارع والمحاشي والسجق باللحم والرز أما في الجانب الآخر من المطعم فكان يقدم ساندويش اللسانات ولحم رأس الغنم بأسلوب فريد من نوعه. 

أما في صدر مدخل القرماني فكان محل مجيد الفوال أشهر باعة الفول بدمشق حيث كان يقصده الصغير والكبير للتلذذ بطعامه والاستماع إلى ترحابه الحار لزبائنه ودعوة عماله لخدمتهم بروح عالية. 

وفي مدخل السوق على اليمين كانت تنتصب المناقل بالفحم لشوي اللحم بأنواعه (الكبدة – الشقف - الكباب - الكفتا) وخلف هؤلاء الباعة كانت محلات صنع المعجنات (اللحم بالعجين – الشرحات - فطائر الجبنة - فطائر الزعتر). 

في حين على طول المدخل توجد محلات باعة اللحم بأنواعه المختلفة يقابلها في الناحية الأخرى محلات البقاليات وافران الخبز المرقد والمرقوق والكعك وخبز الساندويش. 

أما فرن (نوبار) فكان في الوسط يقدم نوعاً خاصاً من الخبز الافرنجي يتميز به "مكبتل" ذي طعم لذيذ.

أما المحلات التي كانت تلفت النظر فهي محلات تنظيف رؤوس الغنم والخراف والكوارع وسلقها ببراميل على نار حامية حتى الإستواء وبيعها حيث يتم تناول منها: (النخاع - اللسان - النيفا لحم الرأس اللذيذ). 

كما تنتشر في نهاية السوق باعة السمك وجميع الثمار البحرية ويوجد قبالتها باعة الآلات الجارحة بأنواعها المختلفة وجانبها مجلخو الآلات الحادة أما في الطريق الموازية للسوق فكان يقع سوف التبن وكان حرياً تسميته سوق الطيور لأنه اشتهر ببيع جميع أنواع الطيور ويمكن تلخيص خدماته بالآتي:
1- باعة جميع أنواع الحبوب ومشتقاتها. 
2- باعة جميع أنواع الدجاج الحي والمذبوح والبيض البلدي النيء والمشوي بالفرن. 
3- باعة جميع أنواع الطيور الحمام الزاجل والعصافير والشحارير.. الخ. 
4- باعة أحواض السمك الملون. 
5- باعة صناعة السلال من القش والأقفاص والحبال. 

ولا أبالغ إذا قلت أن هذه المحال بمنظرها الأخاذ كانت تدخل البهجة والسرور لدلالتها على التقاليد والعادات الشعبية المتوارثة ولا يمكن للمرء أن ينسى صوت أغاريد العصافير وهي تصدح في عنان السماء. 


خاتمــة

بهذه اللمحة المختصرة ارتاح ضميري الذي كان في أعماقه يتحسر على شيء نفيس ضاع منه ولا أبالغ إذا قلت أنه كلما كنت أمر في تلك المنطقة المندثرة تتراءى لي الصورة الجميلة الخلاقة التي كانت عليها وأعود واقول أن هذا الأمر نسبي بين البشر سبحان خالق هذا الكون ولله في خلقه شؤون. 

نهاية البداية

لقد كان التعليم بالنسبة إليّ مجال خبرة عملية لا حدود لها وكان أثرها واضحاً حين انتقلت إلى جو يختلف كلياً لأبدأ مرحلة جديدة في بناء الذات. 

قبل أن أختم حديثي عن التعليم أبين أنه تقرر بهدف ترسيخ بناء المرحلة الابتدائية على دعائم متبينة لبناء جيل سلاحه العلم أن تكون المناهج موزعة مع توسع وتنوع المواد الدراسية على ستة صفوف ينال بعدها الخريج وثيقة إنهاء المرحلة التعليمية الأولى تحت اسم "شهادة الدراسة الابتدائية". 

وفي سبيل الإعداد لتطبيق النظام الجديد رئي تعديل المناهج وتأليف الكتب الموحدة لجميع المواد ورئي اختياري مع زميل رحمه الله اعداد مؤلف الطبيعيات واعدادي بشكل منفرد مؤلف المعلومات الوطنية والقومية وبهذا النشاط كان مسك الختام لخدماتي في سلك التربية والتعليم بمقررين دُرِّسا في الصف السادس الابتدائي لفترة انتقالية امتدت حتى وضع كتب حسب المنهج الدراسي الجديد.

ولابد لي قبل طي مرحلة التربية والتعليم من صفحة حياتي العملية من التطرق إلى نشاطات اجتماعية في ظاهرها بسيطة ولكنها تحمل عمقاً انسانياً في مجتمع تسود أبناءه روح الألفة والمحبة والتعاون في السراء والضراء لذلك والحالة هذه فإنه كان من مهام العملية التربوية دراسة أوضاع التلاميذ ومد يد المساعدة لهم في حدود الأمكانات المتاحة بحثت الموضوع مع مدير المدرسة الذي كان انساناً عظيماً عجنته الحياة وأكسبته خبرة يضرب بها المثل فشجعني بالفكرة وطلب إلى تقديم دراسة معمقة للموضوع فإنه في غاية الحساسية وخلصت بالنتيجة إلى أنه يمكن أن يكون في مجالات لا تتطلب إجراءات روتينية من الجهات الوصائية ونفقات مالية يصعب تأمينها في وسط اجتماعي غالبيته من ذوي الدخل المحدود وتم الاتفاق على النواحي التالية:

  1. تأمين احتياجات التلميذ في الكساء ومستلزمات الدراسة من كتب ودفاتر وقرطاسية مجاناً. 
  2. تأمين وجبة غذائية صباحبة لعدد محدود لتلاميذ الصفوف الدنيا.
  3. انشاء مكتبة تحتوي على كتب سهلة القراءة وقصص للأطفال. 
  4. اختيار عدد من التلاميذ ممن حرموا لأوضاع مالية المشاركة في بعض الرحلات السياحية بزيارة الأماكن الأثرية المأجورة. 

وتحدثاً بنعم الله وفضله تمكنا بمؤازرة فعالة من أبناء بلدنا الحبيب بتأمين جميع المتطلبات المادية ببالغ السرور والرضا من قبلها. 

ومن قبيل التوضيح أن هذه النشاطات المجانية يصعب تحقيقها على نطاق جميع المدارس في المدينة لما نتطلبه من اعتمادات مالية ضخمة لقطاع تتحمل فيه الدولة أعباء مالية ضخمة لتحقيق مجانية التعليم.

بداية المسار

أفتح الآن صفحة جديدة لآخر مرحلة في حياتي الوظيفية حيث التحقت بعمل جديد يختلف كلياً عن سابقه في الشكل والمضمون كان موضع شرح تفصيلي موجز في مذكراتي السابقة وسأتناول هنا ما لم يرد ذكره فيها اقتضتها ظروف إعدادها أهمها سرعة الإنجاز وضيق الوقت.

كانت بدايات عملي في الأشهر الأولى قاسية جداً صادفت كلها كل أنواع المحاربة بشكل خال من الرحمة والإنسانية ولكن ما من بداية إلا ولها نهاية إذا تذرع الإنسان بالصبر والعزيمة وأحمد الله أن فرجه كان سريعاً فانقشعت السحب "المظلمة لتحل محلها سحب زرقاء صافية". 

أمام المواقف الشرسة التي صادفتها، كان حل الأمر في غاية البساطة، لذلك ارتأيت أن أتجنب الخوض في معارك قد تكون رابحة أو خاسرة، وأنالتحق في القضاء وأمارس المهنة التي أعددت لها؛ فطلبت بمعروض إلى المدير العام موافقته لنقلي من ملاك وزارة المواصلات إلى ملاك وزارة العدلية فاستدعاني لمقابلته على عجل وكانت الأولى فطلب إليّ التحدث عن ذاتي بالتفصيل موضحاً سبب رغبتي الانتقال إلى ملاك وظيفي آخر وأمر أمين سره بأنه مشغول لنصف ساعة ومتفرغ لأمر هام ومن تواضعه الجم أزال بمنتهى البساطة الحاجز الكبير الذي كان بين الرئيس والمرؤوس وحدثته كما يقولون عندنا "بساط أحمدي" لعملي في التعليم وما قمت به من نشاطات وسألني مستفسراً عن مقدرتي اللغوية في النحو والأدب والشعر وبحت بسرٍّ له أن فضل تقمصي بها يعود إلى أستاذ فاضل مدير المدرسة بإرشادي إلى أن النعمق بدراسة اللغة العربية يتوجب عليً العودة إلى ألفية ابن مالك ومؤلف شرح شذور الذهب – ومؤلف مختار الصحاح فأجابني به خير من فعل وحصر الفائدة في معاقلها، وبين لي أنه في قناعاته الذاتية أن التعليم يصقل النفوس ويهذبها ويعلمها النظام والحس المسلكي الرفيع ومن وجهة نظره أنه لرفع مستوى الأداء والانتاجية والشعور بأهمية الزمن ينبغي على كل من يطرق باب الوظيفة عليه أن يمضي فترة في سلك التعليم. 

لقد كان بليغاً في القول والصراحة وسداد الرأي وأوعز إلى إدارة العاملين بإنهاء الدورة الإطلاعية التي كنت أتبعها ووضعني تحت تصرفه لفترة وجيزة يجد فيها حلاً لموضوعي حيث أسندت إليّ في القطاع الإداري مهاماً كنت والحمد لله أهلاً لها. 

ولن أدخل مجدداً في التحدث عن واقع عملي لأنني أوفيته حقه باختصار ولن أعود إليه هرباً من تفسير ذلك بحب تمجيد الذات ورفع المكانة التي كنت فيها عن مقدرة وكفاءة يشهد عليها رؤسائي وكل من يعرفني. 

اعتدت أن أتحدث عن أطرف ما حدث معي خلال بعض الجلسات الصباحية مع أدباء الشعر والمعرفة قبل مباشرة العمل الوظيفي وفي معرض إحداها زارني استاذ الشعر والأدب الأستاذ أحمد الجندي وقد نشأت معه صداقة نتيجة كرمه بالإطلال على في مكتبي قبل لقائه مع رأس الهرم الوظيفي ودعاني إلى ترديد ما لدي من شعر الحكم لفحول الشعراء والأدباء فذكرت له هذه الأبيات: 


أوقد فإن الليل ليل قر           إن جلبت ضيفاً فأنت حر 

(وهو لحاتم الطائي يظهر فيها روح الكرم العربي الأصيل). 

* * *


بكى صاحبي لما رأي الدرب دونه      وأيقن أنا لاحقان بقيصرا 

فقلت له لأتيك عينك إننا نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا 

(وهما لأمرىء القيس ينمان عن الإرادة والتصميم لبلوغ الهدف). 

* * *
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته  وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا 

(للمتنبي وهو أبلغ ما قيل في طباع النفس البشرية)

* * *
رب نبت تعتريه مرارة وقد كان يسقى أعذب ماء السحائب
ولما رأيت الناس يخشى ودهم      تجنبتهم واخترت وحدة راهب 

(قالها محمود سامي باشا البارودي شاعر عصره بأولئك ذوي النفوس الوضيعة). 

ولكيلا يقتصر ذلك على الأدباء العرب فقط، أذكر القول المأثور للفيلسوف الكبير برناردشو عند منحه جائزة نوبل: 

"إن هذا طوق نجاة يلقى به إلى رجل وصل فعلاً إلى الأمان ولم يعد عليه من خطر". 

من المعلوم أنه في بدايات حياته عاش في ضيق من العيش ثم أصبح غنياً لم يعد بالحاجة والعوز فاعتذر عن قبول قيمة الجائزة المادية وتنازل عنها. 

* * *
خاتمة

ولابد في النهاية من القول بأن شعر الحكم والأقوال المأثورة هو غذاء الروح وأدعو من كل قلبي أن نغرس في نفوس أبنائناً حب المطالعة والتزود في أوقات الفراغ بثقافات الأمم ولا اذيع سراً أن الدهشة قد اعترتني لأول وهلة زرت فيها باريز عندما شاهدت جميع فئات الشعب من رجال ونساء وشباب حين يطالعون في كتب أطلق عليها أسم "كتاب الجيب" كل حسب هواه الموضوع الذي يهواه خلال مسافة الطريق في الحافلة لئلا يضيع الوقت هدراً. 


حسن التصرف

انطلاقاً من الأهداف التي ترمي إلى تولي جهات متخصصة موضوع التخطيط السليم لإقامة مشاريع انمائية تهدف إلى التطور الاقتصادية في جميع مرافق الحياة أحدثت هيئة تخطيط الدولة ليكون لها الدور الرئيسي في تحديد المشاريع والتنسيق فيما بينها على أن تتولى جهات متخصصة في جميع الجهات الرسمية بإعداد الدراسات والجدوى الاقتصادية لمشاريعها التنموية وعرضها على الهيئة العامة لاقرارها ووضعها موضع التنفيذ وعلى اعتبار أنها حديثة رئي إجراء دورة تأهيلية تدريبية لعناصر متخصصة لممارسة المهام فوقع الاختيار علي وتبعت الدورة وكانت بحق ناجحة لأبعد الحدود سواء في التنظيم وأهمية المواضيع والأمور التي تناولتها.

أحببت أن اضع المدير العام بالصورة رغبة في الوقوف على توجيهاته فبادرني بالقول ابدأ الآن في تهيئة جميع متطلبات أحداث الجهة التي ستتولى هذه المهام في مؤسستنا للإسراع في اصدارها لأنه ما إن تقرر تنفيذ هذا التوجه حتى انهالت عليه هواتف الوساطة للترشيح باشغالها حباً في الحصول على ما تتم عبه من مزايا وحثني على الإسراع بذلك. 

نفذت المهمة بسرعة فائقة وللتأكد من سلامة وصحة ما قمت به عرضتها على رئيس القطاع الذي نتبع له في الهيئة وقدمت اخباره متكاملة للمدير العام وكنت صريحاً معه بأنها منسجمة مع جميع المتطلبات بشهادة رئيس القطاع في الهيئة فأجابني بقوله حسناً فعلت وبين أنه سيتولى دراستها وادخال ما يراه مناسباً عليها وبالفعل ضمها وعدل كثيراً من الأمور بما يتمتع به من خبرة كبيرة بما ينسجم وطبيعة العمل وطلب إليّ دعوة مدير الشؤون الفنية والإدارية والاستثمارية والمالية للاجتماع في مكتبه وتهيئة إخباره متكاملة لكل منهم في صنعيتها النهائية بعد التعديل حيث تم اقرارها بموافقتهم بضبط أصولي. 

ومن قبيل شهادة حق أقول أنني لم أر بذكاء وحكمة وحسن تصرف المدير العام بهذا السبيل وفاز بما خطط له بقطع دابر الوسطات وابعاد النقد عن موضوع اختيار العنصر الكفء لها من حيث أنه عمد بشكل خفي إلى الترشيح لاتباع الدورة في هيئة تخطيط الدولة أحد المهندسين الذين سبق ايفادهم إلى أمريكا للحصول شهادة الدكتوراه يحمل الاختصاصات التي تنسجم مع طبيعة المهام وأسندت إليه رئاستها وترك له اختيار الجهاز الفني والاختصاصي وبذلك أدركت بما لا يقبل الجدل أن الخبرة الناجحة لا تكون إلا بأداء الواجبات بروح المسؤولية العالية دون اعتبار آخر استدليت من معالجة الموضوع على هذا النحو كان ضربة معلم لعصفورين بحجر واحد تكوين الجهة الاختصاصية والعهدة بها إلى من هو أهل لها، وأن بعد النظر أول ما يجب أن يتحلى به رأس الهرم الوظيفي.

* * *


غــــرور

بعد عودتي من فرنسا التي اوفدت إليها للتخصص المسلكي في المجال الإداري والمالي والاستثماري دعوت بناء على طلب المدير العام الجديد لحضور اجتماع يحضره مديرو هذه القطاعات واستهل حديثه بأنه من دعاة فتح باب الإيفاد تخصص على مصراعيه استفادة من المنح التي تقدمها الدول المتطورة على حساب نفقة الاتحادات الدولية وإنني استغليت عودة موفدنا الى الادارة الفرنسية ليحدثنا عن أهم وأبرز ما يجب تطبيقه ضمن الحدود المناحة بالحدود الدنيا وبأدنى التكاليف.
أوردت عدداً من المجالات وقبل أن استرسل بالشرح قوطعت مراراً في محاولة بأن المقترح مطبق لدينا منذ أمد بعيد ولكن المدير العام رد عليهم بشدة وعلائم الغضب ارتسمت على وجهه لقد اسرعتم بالحكم قبل معرفة كنه الموضوع فأنا بحكم تصريف الأمور لا أكتم بأنه عرض علي موضوع تأليف لجان لدراسة ما يجب اتخاذه حول سلسلة من الأمور التي عرضها الموفد ومن المفيد هنا الانتظار حتى ورود المقترحات وأنهى الاجتماع بالطلب إليّ الإسراع في تقديم تقرير الإيفاد مع المقترحات المناسبة قطعاً لكل جدل سفسطائي.

ولم يكن ذلك موقفاً جديداً بالنسبة إليّ لأنني قوبلت بمثله عند مباشرتي عملي المؤسسة ولكنني تساءلت في نفسي الهذا الحد تصل الأنانية وتذكرت فعلاً أن صراع البقاء والاحتفاظ بالموقع الوظيفي يدعوان بالضرورة إلى التسلح بعنصر "الكفاءة والمقدرة وسعة الأفق".
* * *


استغلال

اتصل بي رأس السلطة الوصائية على المؤسسة وطلب ارسال اضبارة الدعوى القضائية المقامة عليه للمطالبة بنفقات ايفاده إلى الخارج للحصول على مؤهل علمي عال في مجال الاتصالات وذلك لعدم الوفاء بالتزامه بخدمة الدولة ثلاثة أمثال مدة الايفاد والتخصص المسلكي في أحد المجالات الفنية فبدا لي بأن الأمر واضح يهدف إلى الحصول على الكفالة المالية التي استند إليها لاسترداد نفقات الإيفاد المالية فعمدت إلى رفع النسخة الأصلية بأخرى مصورة فاتصل بي هاتفياً أين توجد كفالة الأصيل فأجبته بأنها لدى المحكمة المختصة كوثيقة رسمية في إضباره الدعوى التي هي ما زالت قيد النظر وبذلك تخلصت من تصرف لا تحمد عقباه يؤدي الى عدم كفاية الأدلة في اصدار الحكم لصالح المؤسسة وضياع حقوقها. 


انطبــاع

عقب حرب الخامس من حزيران بأشهر قليلة قام وزير المواصلات في الأتحاد السوفياتي بزيارة رسمية إلى دمشق لتوثيق أواصر التعاون بين البلدين وقد تم اختياري للقيام بمرافقته خلال الزيارة وقد كرس همه الكبير على الحرص لمشاهدة روعة المدينة وآثارها الحضارية وأبدى رغبته زيارة أحدى المدن الحضارية قرب مدينة دمشق وقد تحقق له ذلك وأبدى اعجابه الشديد بواجهة قصر الحير في بناء متحف دمشق وما احتواه المتحف من آثار دللت على كون بلادنا مهد الحضارات في العالم وزار مشياً على الأقدام سوق الحميدية وسوق مدحت باشا جميع أرجائه حيث شاهد بإعجاب شديد أماكن خياطة العباءات والملابس التقليدية وبعض محلات الصناعات اليدوية النحاسية والنقوش وزار أحد الخانات التي تحولت إلى محلات تجارية لبيع المنسوجات والملابس الجاهزة وأماكن تخزينها البضائع وتأثر لعدم الحفاظ على الطابع الأصلي للخان الذي والحالة هذه أفقده الصبغة التاريخية وإظهار روعة الفن المعماري الذي أشتهرت به مدينة دمشق أعرق مدن التاريخ.
وتابع زيارته مشياً على الأقدام في سوق البزورية وتفقد معالم حمام نور الدين الشهيد الخارجية وأبدى اعجابه بتنوع المواد المعروضة فيه الفريدة من نوعها وزار قصر العظم وتفقد معالمه وأبدى اعجابه بروعة بنائه وشدد في كلماته التي زارها خلال الزيارة على موضوع الحفاظ على هذا التراث التليد. 

واستمر مشياً على الأقدام فشاهد الصاغة ومحلات صناعة الأواني الخشبية وأظهر دهشته بالأيدي الماهرة بهذه الصناعات الفريدة من نوعها في المنطقة. 

وختم زيارته بزيارة المسجد الأموي الكبير وتناول في نهاية الزيارة كأساً من الشاي في حي التوفرة ولدى خروجه من الجامع مر بالمسكية وشاهد الأعمدة والأقواس الحجرية في مدخلها. 

وقد أتاحت له الفرصة في يوم الزيارة الأخير الذهاب إلى بصرى الشام وفي الطريق طلب التوقف أمام مرتفع يجلس عليه أحد فلاحي البلدة يحمل بيده مذياعاً ويستمع إلى أحدى نشرات الأخبار واتجه نحوه فما كان من المواطن أن أستقبله بعبارات ترحاب تعبر عما يكنه شعبنا نحو بلده الصديق الذي يدعم قضايانا وأجاب على أسئلة الضيف بأجوبة تنم عن ثقافة ووعي زائدين فسر بهذا اللقاء وأعرب عن إعجابه الشديد بوعي هذا المواطن وتابعنا السير حتى مركز المحافظة حيث زار معالمها واقام محافظ درعا مأدبة غذاء على شرفه في مطعم بحيرة مزيريب وأبدى اعجابه بجمال الطبيعة الغناء وأراضيها الخصبة وكانت خاتمة زيارة لهذه المحافظة مشاهدة قلعة بصرى وبناء مسرحها الرائع وآثارها الخالدة.

ضربة معلم

- استدعاني المدير العام إلى مكتبه وطلب إلي الجلوس وعرفني على رجل في مكتبه وبدأ حديث بالقول بأنه سيؤرد قصة عن آخر خلفاء الأمويين مروان بن محمد مع أبنه وكان مسجوناً من قبل العباسيين في حفرة بالرقة بباطن أرض حقل ترابية ليس فيها سوى منفذين أحدهما لدخول الهواء والثاني لتزويدهما بكسرات من الخبز اليابس مع جرة ماء ومن قسوة العيش وضيق الأمل فسأله ابنه أليس الموت أرحم من هذه العيشة الذليلة فنحن الآن أموات في الحياة فأين العز والجاه الذي كنا ننعم به من طعام وشراب وسمر فأجابه والده اتق الله يا بني أنها دعوة مظلوم لم يكن بينها وبين الخالق حجاب وما كاد ينهي كلامه حتى قلت له هات من الآخر ما حاجة ضيفك فقال أن معاملة تعيين أبنه ما زالت قيد التنقل بين المكاتب ولم تقترن حتى هذه اللحظة بالإنجاز وهو بحاجة ماسة للعمل لتأمين مورد رزق لعائلته ومضى عليها أكثر من شهرين فطلبت امهالي يومين حتى يكون صك الاستخدام جاهزاً بإذن الله ولن أستفسر عن الأسباب لأن الأعذار مهيأة عند المرجع المختص والمهم الآن الوصول إلى نتيجة ايجابية.
وبعد مدة توضح لي الأمر فقد كان طالب التعيين ابناً لحارس مزرعته وبذكاء حاد تمكن من الحصول على الهدف دون أن يبدي وساطته بالموضوع وأظهره بأنه انساني بحت.

وكانت هذه الواقعة درساً قاسيا لأنني وقفت من خلالها على أمور خطيرة أهمها عدم شعور بعض العاملين بالمسؤولية واتخاذ الموقع الوظيفي سبيلاً للتحكم في مقدرات المحتاجين. 

عمدت أولاً إلى عقد اجتماع نوعي طلبت فيه ضرورة خدمة المواطن وايلاء أموره كل اهتمام والعمل على خدمته بكل السبل وعدم وضع حجر عثرة أمام حاجته وطلبت في الوقت نفسه قيام كل عنصر تقديم كشف حساب بما أنجزه من عمل وما هو بحاجة إلى تذليل لاتخاذ الاجراء المناسب. 

أقول هنا يا حسرة على النفس البشرية التي تتعالى عن الآخرين دون التذكر بأن المناصب لا تدوم طويلاً ولكن وللأسف الشديد فإن الطبع غلب التطبع فأين أولئك الذين كان همهم الأول والأخير نصرة الملهوف وفعل الخير لأنهما من شيم النفوس الطيبة. 

عواصف الايام

بعض الشعراء يرسم على شفتيك بسمة وبعضه يعطيك حكمة وما جاءت به  الأبيات التالية من مقولة أكدت قول علماء التربية والاجتماع والنفس في عشرات المجلدات عن سبل حماية الصداقة بين البشر:
إذا كنت في كل الأمور معاتبــــــاً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبــــــه 
فعــش واحداً أو صــــــل أخـــــاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبــــــه 
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى     ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها    كفى المرء نبلاً أكبر أن تعد معايبــــه


مروءة ووفاء

- كنت بمهمة رسمية في جنيف صحبة زميل في العمل وبعد انتهاء المؤتمر النوعي المصغر لدراسة مواضيع مهنية محددة تفرغنا للتجوال والتسوق بهدايا تكبدنا فيها ما نحمله في جعبتنا من نقود وعدنا إلى الفندق وصفينا جميع أمورنا وهيأنا حقائب العودة إلى بلدنا الحبيب صباح اليوم التالي. 

أمضينا السهرة بدعوة أحد خبراء الاتصالات في الإتحاد من الإدارة الروسية تربطه مه زميلي صداقة زمالة دراسية في موسكو وتناولنا العشاء في منزله وقام بتوصيلنا بسيارته إلى الفندق مودعاً وكانت السماء داكنة حمراء في الصباح توجهنا إلى كافتيريا الفندق لتناول طعام الفطور فاستقبلنا مندوب لبنان وكان منفعلاً وعلائم الغضب الشديد مرتسمة على وجهه فسألنا عن السبب فقال ألم تشاهدوا المنظر من نافذة غرفتكم فأجبناه بالنفي فقال لقد انقطعنا ولا نعرف متى يكون سراحنا فالثلج أصبح بكثافة تزيد عن 70سم جعل المدينة في عزلة عن العالم. 

لقد شكل لنا الأمر صدمة لا حدود لها ووقعنا في حيرة لأن موظف الأستبال سد جميع السبل أمامنا وعليكم ملازمة الغرف حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. 

وبالنسبة لنا فإن المشكلة لا تكمن في البقاء حتى سنوح الفرص فهي تتصل ببحث طريقة تأمين أعباء التكاليف المستجدة في جيوب خاوية. 

جلسنا في البهو ونحن نتأمل من خلال الجدار الزجاجي على الطريق المنظر المضحك والمبكي في آن واحد ولكن بارقة الأمل تبدت لنا حين شاهدنا أن سكان البيوت الأرضية واصحاب المحلات مستعدون لمجابهة الوضع حيث قاموا بتجميع الثلوج التي تسد الرصيف والقائها على قارعة الطريق لأن بلدية المدينة أسرعت في ارسال الجرافات لفتح الطرقات وبذلك يسهل علينا التنقل بالذهاب إلى المحطة التي كانت قريبة من الفندق وتضم تجمعات الخدمات على أنواعها. 

توجهاً بمنتهى السرعة إلى مكتب شركة الطيران السويسرية وبينت للمضيفة أننا كنا  على أهبة السفر ولكن استحالت علينا العودة لكون المدينة في عزلة عن العالم وأنه بمقتضى أحكام اتفاقية الطيران العالمية اصبح من حقنا أن تقوم الشركة بتغطية النفقات حتى سنوح الفرصة. 

أجابتني بأدب جم أنها من الناحية الإنسانية والعاطفية مع تحقيق الطلب ولكن صراحة النصوص لا تساعد لكون حالتكم غير مشمولة بها وأن كلامك صحيح ومنسجم مع القانون لو كنتم في أرض المطار وعلى أهبة الاستعداد للسفر وحالت الظروف باستحالة مطلقة دون ذلك ولكنكم الآن في حكم المقيم بداره انقطع أول الخيط وفي ضوء ذلك لم يبق أمامي سوى التوجه إلى كوة المخابرات الدولية وأذكر أن رقمها تسعة فخشيت أن يكون شحاً علينا باستحالة الاتصال مع دمشق وشرحت لمأمورة الهاتف بأنني سأكلمها بشفافية ومنتهى الصدق والصراحة ورجوتها أن تساعدني في محنتي موضحاً أنني لا أملك من النقود سوى 15 فرنكاً سويسراً وأن تحرص أن تكون مدة المكالمة لدقيقتين فقط وأنه قبل انتهائها تقطع الاتصال تفادياً لأي خلاف لاحق. 

وبالفعل كانت إيجابية وكريمة حققت لي الاتصال ووضعت عائلتي بأن موعد العودة سيكون لاحقاً. 

وقطعاً لكل استغراب لذكر هذه الواقعة أبين هنا بأن الدنيا صغيرة جداً وأن المعروف لن يضيع مهما مر الزمن وأنه بعد الضيق يكون الفرج.
أنه عند خروجي إلى بهو المحطة للاستراحة على أحد المقاعد تقدم مني شخص بزي أجنبي وحيائي وضمني إلى صدره بحرارة وقال لي ألم تعرفني قلت له لا تؤاخذني الحق على الذاكرة التي خانتني فعرف عن نفسه وأبدى سروره البالغ بلقائي بعد عقد ونصف من الزمن ولم يبخل بتذكيري ما قدمته له من مساعدة خلال كونه موظفاً في قطاع عملي وأكد عرفانه بالجميل سواء باعطائي له الأذن الخاص لحضور بعض الدروس النظرية في الجامعة أو تقديم الصائح والعون له عندما كان طالباً يتابع تحصيله الجامعي بدمشق. 

وسألته عن حالة فأجابني أنه حصل على شهادة الدكتوراة باختصاص النقل البحري ولديه مكتب في سورية لممارسة أعمال النقل البحري وهو وكيل شركات نقل أوروبية اتخذ له مكتباً في جميف لإنجاز أعمال النقل البحري للمستوردات عن طريق اللاذقية وطرطوس. 

وأبدى سروره البالغ بهذه الصدفة التي أتاحت له اللقاء بي واعتذر عن عدم زيارتي بدمشق وبين أنه قد تابع بشغف ما سؤول إليه محاولاتي مع وكالات السفر وأن ما حدث يصادف الجميع في الغربة ودعانا إلى تناول طعام الغذاء معه في مطعم المحطة للتلذذ في طبق الحساء الذي أشتهر به في العالم. 

وقبل وداعي أختلى بي جانباً وأوضح أنه في هذا الظرف الطارىء يعمل حق العلم الوضع الذي نحن فيه الآن ومن قبيل الدين في ذمتنا صنع هذا المبلغ في جيبك وسأسترده منك خلال زيارتي لأختي بدمشق في شهر آاب وأنه لن يتراجع عن خطوته مهما كانت الاسباب وسارت الأمور كما رسم لها. 

ومن مجريات هذه الواقعة الشخصية التي مررت بها تذكرت قول الشاعر المتنبي: 


من يفعل الخير لا يعدم جوازيه       لا يذهب العرف بين الله والناس  

وعلى قول أجدادنا أنه لو "خليت لخربت" فالدنيا صغيرة. 

حنين

قام وزير الاتصالات الفرنسي بزيارة رسمية لسورية بهدف بحث أفق توسيع أواصر المتعاون بين البلدين ورسم معالم توثيقها وزيارتها في المرحلة القادمة وقد تم اختياري أن أكون مرافقاً للضيف وتمت المباحثات في جو ودي وخلصت إلى نتائج مثمرة لمصلحة إداراتي الاتصالات في البلدين وخاصة تقديم الدعم والمعونة الفنية والخبرات المتطورة في مجالات الاتصالات وتدريب وتأهيل العاملين.
وكرس أوقات الفراغ للتعرف على معالم المدينة وآثارها التاريخية وأسر لي أنه قد أمضى فتة طويلة من طفولته في مدينة دمشق حيث تلقى تعليمه في مرحلة نشوئه في مدرسته اللايبك في شارع بغداد.

وقد اصر أن يتناول جدول الزيارة أماكن محددة كانت محل اقامته في صغره بدأها بأداء الصلاة في كنيسة الفرنسيسكان وأبدى أنها كانت محاطة بحديقة غناء تمتد أمامها البساتين وحقول الخضار والفواكه وعلى جوانبها مدرسة الراهبات ( الفرنسيسكان) ودور السكن بفنها المعماري العريق. 

وخلال زيارته المدنية القديمة أبدى اسفه الشديد لتبدل معالمها وزوال عدد لا يستهان به من المعالم الأثرية الهامة وأعرب بحد سروره بالمحافظة على سوقي الحميدية ومدحت باشا وما فيها من قصور وخانات وشاهد بعض البيوت ذات الفن المعماري الرفيع وأعجب خاصة بحماماتها التقليدية العريقة المجاورة لها. 

وقد أكد قبل سفره على زيارة مسجد السيدة زينب الذي زاره في صغره خلال سفره قام بها إلى مركز عمل والده في مدينة السويداء حيث كان مستشاراً في إدارة الشؤون الفنية الفرنسية إبان الانتداب وأبدى سروره البالغ للتطور الكبير الذي شاهده والحفاظ على المعالم الاثرية في مدن المحافظة. 

وهنا أؤكد مجدداً أنه ما تزخر به مدننا من آثار حضارية تبقى محطة هامة في برامج الأجانب الذين يزورون بلدتنا ويبدون أسفهم ورثاءهم على هدم وزوال النسيج العمراني القديم.

- ما أوردته هنا غيظاً من فيض مما في جعبتي من أمور كنت أريد أن اشير إليها ورأيت الاكتفاء بأبرزها جاء في المذكرات السابقة ويعضها في هذا المؤلف الذي يختلف كلياً في الشكل والمضمون وابتعاده عن أمور تفصيلية خارجة عن نطاق طبيعة العمل الذي أصبح واضحاً على نحو لا يقبل الشك. 

وسأختم زاوية مرحلة ميدان عملي في ميدان الاتصالات بحادثتين فرض علي أن أتصرف حيالها بالشكل الذي سيتم تبيانه بدافع حماية الذات من مأزق ينال المساس بحقوقي المشروعة وهي:

*** الأولى منها أطلق عليها عنوان "زمار الحي لا يطرب" وتتلخص أنه وقع خلاف بين المؤسسة وشركة تنفيذ مشروع تأمين الاتصالات عبر المحطة الأرضية دفع الشركة إلى اللجوء إلى التحكيم أمام محكمة الغرفة التجارية الدولية. 

تبلغت المؤسسة مذكرة الدعوى القضائية مشفوعة بالدفوع القانونية أعدها كبار محامي الشركة على مستوى عال من الإتقان والقوة القانونية. 

استدعاني المدير العام بقوله نحن أمام مشكلة هامة يجب أن نجد لها حلاً يحفظ حقوقنا كاملة ويخرجنا بنجاح من هذا المأزق فطلبت إليه استمهالي ببيان الرأي بعد ثلاثة أيام ليتسنى لي دراستها بعمق وروية فكان لي ما أردت وأكد على أنه يثق بي ثقة عمياء بتقديم المقترح الذي يلقي قبولاً من السلطات الوصائية العليا لأهمية الموضوع ونتائجه الخطيرة في حال خسران الدعوى. 

أبديت له باختصار شديد أنني على استعداد لإعداد الرد القانوني بمذكرة جامعة مختلف الجوانب الفنية والقانونية مؤيدة بالوثائق والمستندات الدامغة بالسرعة الكلية وقبل انتهاء الموعد الذي حددته المحكمة وبينت له أنه من الصعوبة بمكان لأية جهة خارجية ليس لديها أية فكرة عنه أن تلزم بالموعد. 

واشترطت عليه أن يقدر تعبي بان أكون إلى جانبه عند النظر في الدعوى باعتبار أنه سيكون محكم المؤسسة وتتوزع المهام بيني وبينه بحيث يكون مسؤولاً عن الجانب الفني وأنا عن الجانب القانوني. 

وبينت له بمنتهى الصراحة بأن الأعين ستقع على الحصول على صفة المحكم طمعاً في التعويض السخي لهيئة التعليم حيث سيكون بنسبة 25% من المبالغ والغرامات والأضرار التي تحددها المحكمة. 

طلب إلى المباشرة على بركة الله فسالته هل هناك ضمانة لأن تكون النتائج إيجابية لصالحنا لأنه يخشى كما تعودنا دائماً الخروج من العرس بلا حمص. 

نفذت المهمة بمذكرة جوابية متكاملة من جميع الجوانب العقدية والفنية والقانونية مرفقة بالمؤيدات الدافعة. 

رأى المدير العام أن نعرضها على الوزير ونحصل على موافقته والبدء باستكمال الإجراءات فأجابنا بأنه كان ينتظر من المؤسسة طلب بيان التوجيه ففوجىء بإنجاز المطلوب ورأى أن تدرس الإضبارة من قبل لجنة قانونية تم تأليفها لهذا الغرض من كبار أساتذة القانون في كلية الحقوق واتصل هاتفياً برئيس اللجنة واستدعاه على عجل لمكتبه. 

عرض الوزير الموضوع على اللجنة بنفس الجلسة بحضور جميع أعضائها وسلمها إضبارة متكاملة على أن يرد جوابها خلال ثلاثة ايام لأهمية الموضوع وارسال الرد قبل انتهاء المدة القانونية. 

وعند خروجنا ضحكت وقلت للمدير العام طار العصفور وحط على غصن آخر من الشجرة . 
بينت اللجنة رأيها بأن الرد القانوني والدفوع الفنية على المستوى المطلوب وطلبت فقط تعديل مقدار المطالبة المالية وجعله 120 ألف دولار لضمان الحصول على المقدار المحدد في المذكرة في حال تخفيضه من قبل المحكمة. 

فأجبت بأن هذا المقترح سيكون آثاره في زيادة النفقات التي ستتحملها المؤسسة كأعباء مالية نتيجة دعوى التحكيم. 

رأى الوزير أن تكون اللجنة القانونية محكم المؤسسة ويناط بها مهمة الدفاع عن حقوقها ولها حق الاستعانة بمن تراه من العاملين في تنفيذ مهمتها. 

وفي ضوء هذه النتائج توارد إلى ذهني حادثة حاكم مصر عمرو بن العاص مع والي الروم في غزة حين قيل له أحسنت الدخول فأحسن الخروج فأدرك عمر بذكائه الحاد أن الوالي قد أضمر له شراً فعاد إليه والتمس منه بزيارة ثانية يأتي فيها صحبة مجموعة لا تقل عنه ذكاء وفصاحة بالقول والرأي السديد فرجع الوالي عن قراره تقبل الوفد قبل خروجه وتمكن عمر من التجارة وقال : لن أعود لمثلها أبداً فجمعت الأضابير التي وزعتها وحصرتها بحوزتي وقلت للمدير العام لن يحصل أحد بعد الآن على ثمرة جهدي الشخصي ولو كلفني ذلك عملي الوظيفي. 

وقد مر الموضوع بتسويته ودياً بناءً على رغبة الطرفين وحصلت على مكافأة مالية لقاء جهودي لا تسمن ولا تغني من جوع. 

واقتراحي تسميتها "زمار الحي لا يطرب" لأنني لم أتلق أي كلمة شكر أو ثناء على ما بذلته من عناء في اعداد المذكرة التي اقترنت بإعجاب جهابزة القانون من حيث كونها ملمة بجميع الجوانب القانونية والفنية ولكنني قوبلت مثل ما قوبل به أحد العازفين والمطرفين بعد أن أعتلى عرش الطرب في البلدان المجاورة لدى عودته إلى بلده بسلبية شديدة ولم يجر له حسن الاستقبال والترحاب حيث كان يتوقع . 

*** أما الثانية فأطلق عليها عنوان "رحمة السماء" وتتلخص بأنه طلب إلي من رئيس الهرم الوظيفي أن اشارك في اجتماع حيوي هام لكبار المسؤولين في الدولة باعتباري رئيساً للمجموعة القانونية لمشروع في بالغ الأهمية فحاولت الاعتذار لأن البحث سيتناول جوانب فنية بحتة خارج اختصاصي فأصر أن أحضره وخلال مناقشته ركز مدير المشروع أن الأسباب التي عاقت سبل التنفيذ هي عدم توفر العنصر البشري الكفء فسئلت عن صحة ذلك فبدالي أن الأمر واضح يهدف إلى التهرب من المسؤولية والعمل على رمي الكرة في غير موضعها الصحيح وتذكرت بهذا الصدد قول سيد الفقه الإمام الشافعي طيب الله ثراه: 


لا خير في ود امرىء متلون      إذا الريح مالت مال حيث تميل 

وانبريت إلى تقديم الرد بهدوء وبرودة أعصاب وأكدت أنه لو أحطت علماً في الموضوع لهيئات المستندات المؤيدة ولكنني فوجئت بالدعوة نهاية الدوام الرسمي على عجل وهنا أتساءل لماذا لم تلق اقتراحاتي التي قدمتها لحل الموضوع إيجابية كاملة ولاسيماً منها اقتراح تأمين الاختصاصيين وهم لن يتجاوزوا في جميع الأحوال ضعف أصابع اليد من كادر في المؤسسة لن يزيد عددهم عن ستة آلاف لندبهم للعمل في المشروع وأرجو استمهالي يوماً وأحداً لتقديم مذكرة متعاملة عن الموضوع. 

فطلب رئيس الاجتماع الاستراحة لبعض الوقت وأومأ إلى للإجتماع معه وسمعته يقول لنائبه للشؤون الاقتصادية باله من ثعلب ماكر أدخلنا في دوامة ويقصد بذلك المدير التنفيذي للمشروع فاستفسر مني عن بعض الأمور وسألني عن أحوالي فأجبته بكل جرأة أنني غير مسرور من تصرف رئيسي المباشر حيث أنه لا يعامل جميع المديرين على قدم المساواة حين وجهتم بأن تكون السيارات الحديثة لمستحقيها لم يتم ذلك، وللأسف الشديد أصبح الأمر كما يقول المثل العامي "خيار وفقوس" وتم التوزيع على هواه وكان واقفاً خلفي يستمع الحديث فأمره الرئيس بتسوية الموضوع حسب القدم الوظيفي والمرتبة وإعلامه التنفيذ. 

وأختم هذه الواقعة بقول الشاعر الحكيم:
إذا أصيب القوم في أخلاقهم     فأقم عليهم مأنماً وعويلاً 


اعتراف

- وأنهى مذكراتي هذه بما صادفته من أمور حلوة ومرة اقتصرت على عدد محدود جداً وهي من حيث الكم شيء لا يذكر وكنت أهدف من ورائها التدليل بأن الطريق ليست دوماً مفروشة بالورود وأنه من واجب المرء ألا يقف مكتوف الأيدي أمام معاكسات الدهر وأنه يجب عليه التذرع بالصبر ويمتثل لقول الشاعر:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تنال المجد حتى تلعق الصبرا

وكان بودي الاكثار مما توارد في ذهني وأنا أكتب الذكريات وكانت في واقع الحال أكثر من أن تحصى وأمام هذه الحقيقة أتمنى أن يكون ما جاء ذكره منها قد نال الرضا والقبول من سواي ولكن من المؤكد أنه سيتم منها استخلاص العبر. 


حكم القوي

- أنني هنا أمام حادثة لم أتوقع أن تكون نتائجها على النحو الذي آلت إليه وتأكدت أن النفس البشرية هي وأحدة مهما اختلفت الأوضاع والا وهي امارة بالسوء مهما علت أو نزلت إذا تجردت من المثل العليا والأخلاق ويترك الحكم عليها لذوي الضمائر الحية في ضوء تصرفاتها الفعلية.

- كلفت قبل انتهاء خدمتي الوظيفية بمهمة تخرج عن واجباتي الوظيفية الأساسية تتطلب خبرة وجهداً كبيرين الأمر الذي دفعني إلى بذل المستحيل لتنفيذ المهمة على أكمل وجه فأثمرت النتائج بوضع وإعداد جميع متطلبات أحداث شركة انتاجية لتجهيزات فنية للاتصالات بشراكة بين المؤسسة وشركة عالمية في التصنيع وقد تناولت النظم التي وضعت مشاريعها ما يلي:

- الجدوى الاقتصادية للمشروع. 
- النظام الأساسي الذي يحدد حقوق وواجبات الشركاء ومسؤولياتهم وبشكل خاص العلاقات الثنائية بين الطرفين الشريكين.
- نظام العاملين في الشركة. 
- النظام المالي للشركة. 
- نظام التخزين والتسويق محلياً وفي الأسواق المجاورة. 

اقترنت الأنظمة بموافقة الجهات الوصائبة السورية واعتمدها مجلس إدارة الشركة ووضعت حيز التنفيذ وظهرت الشركة إلى العلن وباشرت مهامها وفق الأصول المقررة وتوليت أمانة سر مجلسها الإداري في اجتماعه الأول وهنا يبدأ الشيء المحزن فيها أنني طلبت إلى المدير التنفيذ للشركة الذي كان رأس الهرم الوظيفي للمؤسسة وهو الذي كلفني بالمهمة أن يفي بوعده الذي قطعه على نفسه أن يستصدر ما يؤمن حصولي على التعويضات الذي حددها بلسانه عند التكليف بمئة ألف ليرة سورية عن كل نظام ومكافأة تشجيعية عن الجهود التي بذلتها في مرحلة التأسيس. 

وهنا تذرع بأسباب واهية ينكل بوعده بمنحي تعويضاً لقاء الجهد الذي قمت به  واقترحت عليه أن يقدر أتعابي وأكون المستشار القانوني للشركة فسد السبل في وجهي وكان الحديث معه بحضور صديق لي وله ولم يتدخل بالموضوع وحمله على إنصافي  ولكنه ظل صامتاً ولما خرج من مكتبه عرج في طريقه إلى زيارتي فنظرت إليه نظرة استدل منها ما أريد قوله فبادر فوراً إلى القول أنني لا أشك بذكائك وما تتمتع به من حسن تصرف في مثل هذه المواقف. استغربت تماماً كيف لم تشركه معك في الجهود التي بذلتها لينال نفس التعويضات التي تستحقها ثمرة أتعابك سواء في مرحلة إحداث الشركة وما بعدها والآن عوضك على الله. 

فكرت بما قاله واستعرضت الموضوع من جميع جوانبه فوجدت أنني قد قصرت بحق نفسي منذ البداية ولا يوجد ما يدعم مطالبتي بالتعويضات قضائياً وأن الثقة المطلقة بمن ليس هو أهلاً لها غير واردة في التعامل الرسمي وبذلك انطبق علي الحكم الفقهي "المقصر أولى بالخسارة" ولم يعد في الأمر حيلة سوى تذكر قول الشاعر: 


سلام على الدنيا إن لم يكن بها   صديقٌ صدوقاً صادق الوعد 

ومن قبيل ذكر الحقيقة أبين بأنها هذا الموقف  يبتعد كل البعد عن شمائلنا وأخلاقنا لم يكن الأول من نوعه ولكنه الأخير وأقول بصراحة تامة أن طبيعة العمل في الحقل الوظيفي شأنها كغيرها في مجالات العمل الخاص تسودها روح الغيرة والحسد وتُعالج من زاوية الأنانية المطلقة. 

وأخيراً أحب أن اذكر بأن المناصب لا تدوم طويلاً وأن كل امرىء في هذه الحياة يذكر بعمله وهنيئاً لأصحاب الذكر الحسن.


اعتذار

يزخر التاريخ العربي والإسلامي بمواقض مشرفة وِاقوال مأثورة تبين أهمية العدالة بأنواعها المختلفة في حياة الشعوب وأن أي انتقاص والعزوف عنها يؤدي إلى عواقب وخيمة تنعكس على جميع النواحي الاجتماعي. 

وحين تمارس العدالة على الأرض بأيد أمينة يشعر الإنسان أنه بين كفتي ميزانها وحين يفقدها يشعر بخيبة أمل ويصبح بنظره موضوع ردها إليه عمل إنساني عظيم. 

وفي ظل ظروف المرحلة الراهنة التي يعيشها العالم أجمع زلت معالم العدالة في الأقطان وأصبح من الضروري الرجوع إلى الأقوال المأثورة التي سلطت الأضواء على أهميتها والعمل على كل ما من شأنه إعادة الحق إلى نصابه ولاسيماً في المرحلة الراهنة التي تسلط منها القوي على الضعيف وبدا ذلك واضحاً في القرارات التي يتخذها أولئك الذين غرتهم المناصب الوظيفية بإصدار أحكام بعيدة كل البعد عن اعطاء كل ذي حق حقه المشروع. 

وبما أن هذه الظاهرة السلبية في الوقوف حجر عثرة أمام العدالة ليست حديثة العهد بل قديمة قدم الزمن تناولها أصحاب الرأي الراجح والخبرة بمجمل من الأقوال المأثورة. 

*** أستشهد منها ما قاله الخليفة أبو بكر الصديق في أول خطبة له : " أما بعد أيها الناس لإني قد وليت عليكم ولست بخبركم فإن أحسنت فأعنيوني وإنم أسأت فقدموني الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيمكم قوي عندي حتى تاريخ عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالعلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". 

ما أروع هذا الكلام وحسن التوجيه ومكارم الأخلاق وصيغ التعامل الصحيحة. 

*** كما أستشهد أيضاً بقول الخليفة عمر بن الخطاب حين خاطب الناس: "رحم الله أمرأ أهدى إلي عيوبي". 

وهذا القول يعرف في الوقت الحاضر بعملية النقد والشفافية والإفصاح. 

- ولن أستفيض في تقديم شواهد من المآثر والمثل العليا التي رسمها أجدادنا وأصبحت دليلاً بيناً يستهدي بها أكثر عظماء العالم. 

وأختم هذه الخاطرة بقول القائد صلاح الدين الايوبي عقب انتصاره في حطين لجنوده : "لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيف حاكم بل بقلم القاضي العادل".

مآثر من التاريخ

ضمنت مذكراتي السابقة بعض القناعات الشخصية في مجالات تتصل اتصالاً وثيقاً في مجالات تهتم بها فئات محددة من أبناء المجتمع ووجدت من المفيد هنا تضمينها مواضيع متنوعة متعددة الأهداف ترمي إلى توسيع آفاق المعرفة في جميع المجالات الأدبية والشعرية والثقافية والحوادث الطريفة ذات المغزي والعبر التاريخية والحديثة بين سلسلة متنوعة أبينها فيما يلي: 

من واقعنا الاجتماعي الحقيقي: شعر أكبر أغنياء دمشق بدنو الأجل بعد مرض عضال فاستدعى رجال الكهنوت من قسيسين ورهبان لإتمام واجباته الدينية لتصعد روحه طاهرة إلى السماء وبعد أتمام المراسم حدد وصيته بأن يخرج كفة الأيمن من التابوت بشكل ظاهر للعيان ولما سئل عن السبب أجاب ليعتبر الخلق أنه مهما كانت ثرواتهم المالية ضخمة يذهبون من الحياة فارغي الأيدي وتبقى ذكراهم بعملهم الصالح. 

من التاريخ القديم: صادق أحد المسافرين على حصانة رجلاً يمشي والتعب والإرهاف بإديان عليه وسأله عن وجهته فكانت لنفس المكان الذي سيسافر إليه واقترح عليه الترافق وتناوب ركوب الفرس وبعد استراحة قصيرة امتطى الرجل صهوة الجواد وابتعد مسرعاً عن صاحبها وأطلق العنان فناداه وقال له : ناشدتك الله ألا تحدث أحداً بما قمت به لئلا يضيع فعل الخير بين الناس. 

من روائع الأدب العربي: يقال أن رجلاً كان في جزيرة فأراد أن يعبر على قربة قد نفخ فيها فلم يحسن إحكامها حتى إذا توغل في وسط البحر خرج منها الهواء ففرق حتى إذا أشرف على الموت استغاث برجل قدم له نصيحة ليتقن إعداد القربة قبل النزول إلى الماء ولكنه لم يأخذ بها فأجابه: "سبق السيف العذل، يداك أوكتا وفُوك نفخ" وذهبت مثلاً يضرب لمن يجني على نفسه ولا يأخذ بالنصيحة.

أعمال خالدة واقوال مأثورة: قام ابن عمر بن العاص والي مصر بضرب الفائز الأول في سباق فرسان الخيل ضرباً مبرحاً حتى أدماه وجرحه بالقول أتسبقني وأنا ابن الأكرمين عظم الأمر على والد الفارس وكان قبطياً لم يدخل في الإسلام بعد فاصطحب أبنه ولجأ إلى الخليفة عمر بن الخطاب الذي استدعى ابن الأكرمين مقدار ما ناله منه ولما أنتهى أمره بالنيل من أكرم الأكرمين فأحجم وأجاب لقد استرديت كرامتي ممن أهانني.

فوقف الخليفة عمر بن الخطاب وقال مقولته الشهيرة التي خلدها التاريخ " متى استعيدتم الناس وقد ولدتهم أماتهم أحراراً" لقد بعث الله محمداً نبياً وليس جانياً وكان هذا الشعار الذي أطلقه الخليفة الإسلامي في مرحلة ظهور الإسلام أحد شعارات الثورة الفرنسية "الحرية" بعد عشرات القرون. 

من مجالس الأدباء: اصطحبت امرأة ولدها الذي لا يتجاوز عمره العشر سنوات إلى مجلس للأدباء والشعراء في دار الفيلسوف والأديب العربي الكبير أبي العلاء المعري فاستمع الطفل إلى ما تم طرحه من مواضيع أدبية فتوجه بالسؤال إلى المعري : " مولانا ألست أنت القائل ":
وإني وأن كنت الأخير زمانه        لآت بما لم يستطعه الأوائل

فرد عليه المعري بالإيجاب وما هو المطلوب وبسرعة فائقة أجابه الطفل لقد جاء الأوائل بأحرف الهجاء فهل يستطيع أن تضيف عليها واحدة عما هي عليه فدهش المعري وقال إن ذكاءه يأكل من عقله.


أعذب ما قيل في التوبة

يتجه المرء إلى خالقه عند الشدائد ويتضرع إليه أن يصرف عنه المصائب ويطلب إليه الغفران والمغفرة عند دنو الأجل لأنه هو المسامح الكريم. 

وانطلاقاً من سلوك البشرية جمعاء فإن أحكامها بحق الآخرين تصدر في كثير من الأحيان مبنية على ظواهر الأمور دون أن تسبر أغوارها في الأعماق. 

ومن قبيل التأكيد على ذلك لقد تم زرع أفكارنا عند دراسة حياة الشاعر أبي نواس من قبل نقاد الأدب أنه شاعر المجون والخمرة ولم يتناولوا الإشارة ولو بإيجاز كبير القصائد التي قالها عند توبته إلى الله تعالى في مراحل حياته الأخيرة واكتفوا بالتدليل على قصيدته العصماء في الخمرة التي مطلعها هذا البيت : 

دع عنك لومي فإن اللوم اغراء    وداوني بالتي كانت هي الداء

ومع مرور الأيام وخلال مطالعاتي لبعض قصائده في ديوانه الزاخر لجميع أنواع الشعر وقفت على أبيات بقيت راسخة في عقلي عن توبته إلى الله وايمانه العميق : اذكرها من قبيل الشواهد على هذا الحكم.

يارب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم 
أن كان لا يرجوك إلا محسن    فيمن يلوذ ويستجير المحرم
أرجو ربي كما امرت تضرعاً      فإذا رددت فمن لا يرخم 
مالي إليك وسيلة إلا الرجا         وجميل عفوك ثم أني مسلم 

وقال أيضاً : 

الهي إن يكن ذنبي عظيماً فعفوك يا اله الكون أعظم 
فمن ارتجي مولاي عفواً وفضلك واسع للكل مغنم 
تركت الناس كلهم ورائي وجئت إلأيك كي بالقرب أنعم 
فعاملني بجودك وزاعف عني وإن تغضب فمن يغفر ويرحم 

ومن قبيل المقارنة أذكر قول أحد الصوفيين في الأستغفار : 

الهي عبدك العاصي أتاك      قراً بالذنوب وقد دعاك 
فإن تغفر فأنت له الأهل وإن تطرد فمن يرحم سواك 

وقال أيضاً: 


يا من خزائن قوله في ملكه كن فامن فإن الخير عندك أجمع 
مالي سوى فقري إليك وسيلة       فبالافتقار فقري إليك أدفع 
مالي سوى قرعي لبابك حيلة   فإن رددت إلى أي باب أقرع 
ومن الذي أدعو ,اهتف باسمه    إن كان فضلك عن فقيرك يمنع 

وقال شاعر آخر: 


فاغفر لعبدك ما مضى وارزقه    توفيقاً لما ترضى ففضلك كامل 
فافعل به ما أنت أهل جميله     والظن كل الظن أنك فاعل 

وقال آخر: 


لطف اللطيف بخلقه لا يختفى    فجميله تخفى الهوم وتنجلي 
هو حسبناكم حادث ضقنا به   ذرعاً ففرج كربة اللطف الخفي 

ويبدو من خلال التشابه في الابتهال إلى الخالق الكريم نفس المشاعر الإنسانية بالإيمان العميق الذي يجيش في الصدور.

مواقف خالدة

من القصص النادرة التي يزخر بها تاريخنا العظيم أحداث ذات مغزى عميق أجد أنه من المفيد التذكير بها في محاولة لزرع الأمل في النفوس، لأن يعيد التاريخ نفسه في أيامنا هذه وأذكرها بكل زهو وافتخار:
1- لقاء الخليفة عمر بن الخطاب مع أحد قادة الفرس:
يتلخص الموضوع بأن القائد الفارسي "هرمزان" الذي جاء المدينة مع وفد له لمقابلة الخليفة عمر بن الخطاب وكان بأبهى زينته يرتدي الديباج والذهب المطلي بالياقوت واللآلي فسأل عن الخليفة فأجيب أنه في المسجد واتجه إليه واستفسر عنه فأشاروا بأصبعهم إلى رجل نائم تو الارض وكان متوسداً على يده ويرتدي عباءة عادية جداً ودرته معلقة بيده فدهش القائد الفارسي وقال بأعلى صوته ليس له حراس ولا كتاب ولا ديوان ينبغي أن يكون نبياً فقالوا له بل يعمل عمل الأبنياء وأمام علو الاصوات استيقظ الخليفة عمر وعرفه وشاهده على تلك الصورة في اللباس والزينة قال أعوذ بالله من النار واستعين بالله الحمد الذي أذل هذا وأمثاله يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين واهتدوا بنبيكم ولا تبطركم الدنيا فأنها غدارة ولم يقبل أن يتحدث معه حتى لا يبقى عليه زينه فارتدى وحاشيته لباساً عادياً وجري بينهما حوار طويل وقال القائد الفارسي بأعلى صوته كلمته الماثورة : " حكمت فعدلت فنمت يا عمر، ونحن ملكنا وظلمنا فخفنا فسهرنا وبذلك انتصرتم علينا"، ثم اسلم وسكن في المدينة. 

2- جابر عثرات الكرام:

قصة من أروع قصصنا التاريخية التي تعبر عن النخوة والشهامة وعزة النفس وتعطينا نموذجاً يجب أن نستهدي به لنحي هذه المآثر في واقعنا الراهن كان في زمن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك رجل من بني أسد اشتهر بالمروءة والكرم والمواساة وكانت نعمته وافرة فلم يزل على تلك الحال حتى أحلت به الضاقة فلجأ إلى إخوانه فساعدوه حيناً ثم ملوه فلاحظ تغيرهم فقال لزوجته قد لمست من إخواني تغيراً وقد عزمت ألا أزعج أحداً بعد الآن وسألتزم داري حتى يأخذ الله أمانته فانقطعت أخباره وفي أحدى المجالس لدى الوالي عكرمة الفياض جرى ذكر خزيمة بن بشر وسأل عنه الوالي فأجيب أنه قد ساءت به الأحوال فالتزم بيته واصبح في حالة يرثى لها لأنه لم يجد كريماً ولا مواسياً فكف عن الأسترسال بهذا الحديث لأمر أخفاه في نفسه ولم يفصح عنه وفي المساء خرج متنكراً وبشكل سري حتى وقف بباب خزيمة فطرق الباب ونقده كيساً فيه أربعة آلاف دينار وقال له أصلح بها شأنك ولما وجد خزيمة الكيس ثقيلاً سأله من أنت جعلت فداك وأمسك بيده لجام الدابة لمنعه من الرحيل فأجاب عكرمة ما جئتك متأخراً ومتنكراً وفي قراره نفسي أن تعرف من أكون ولكني أقول لك أنا جابر عثرات الكرام ثم انصرف.
ولما رجع عكرمة إلى بيته وجد امرأته قد افتقدته وارتابت ولطمت خدها واستفسر منها عن السبب فأجاتب سوء فعلتك يخرج الوالي هدأة الليل سراً متخفياً إلا إلى زوجة أو سرية فنفى ذلك واصرت فأعلمها.
صلح حال خزيمة وقصد خليفة السملمين واستفسر منه عن سبب ابطائه بالزيارة فقص عليه قصة زائر الليل وأنه يجهل أسمه إلا أنه سمع أنه يقال عنه جابر عثرات الكرم وتلهف الخليفة على معرفته لمكافأته على مروءته. 

عاد خزيمة إلى بلده وقد قلده الخليفة الولاية فأمر أن يحاسب عكرمة فحوسب وتبين أن هناك نقصاً كبيراً في خزنة الدولة فطلب إليه عكرمة تسديده فأجابه أنه عاجز عن ذلك فوضعه خزيمة في السجن مكبلاً بالحديد وضيق عليه ولما ساءت حاله إلى أبعد الحدود وانتشر الخبر وبلغ ذلك زوجته فدعت جارتها وكانت ذا عقل سديد ودخلت على خزيمة وقالت له هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك في مكافأتك له بالضيق والحبس والحديد فلما سمع كلامها خزيمة قال واسأوتاه جابر عثرات الكرام واتجه من فوره مع وجوه أهل البلد على الحبس ورأى الحال الذي آل إليه فاحتضنه خزيمة وقبل رأس عكرمة الذي سأله عن السبب فأجابه خزيمة : "كرم فعلك وسوء معاملتي غفر الله لي ولك" وأمر أن يجهز نفسه لملاقاة أمير المؤمنين وسأله الخليفة ما وراءك في العودة على عجل إلينا فأعلمه خزيمة بالأمر وضحك الخليفة وقال لعكرمة كان خيرك له وبالاً عليك.

صحح الخليفة الوضع فأعاد عكرمة إلى الولاية وترك له معالجة موضوع خزيمة بالشكل الذي يراه مناسباً وبقيا يديران شؤون الولاية معاً طيلة خلافة سليمان بن عبد الملك.

كلمة أخيرة

3- علو الهمة:
إن مقارنة بسيطة بين طبيعة الحياة الماضية والحياة المعاصرة يتجلى بوضوح الاختلاف الجذري بينهما وما تتميز به كل منها حيث في الأولى البساطة التي تدخل القناعة في النفوس وعدم المغامرة في حين أن الثانية تدعو إلى عدم الوقوف مكتوفي الأيدي وقبول الأمور على عواهنها وقد كان ذلك محط اهتمام بعض الشعراء لشحذ الهمم أذكر منها الآتي :
لا تحسب المحب تمراً أنت آكله لن تنال المجد حتى تلعق الصبرا

* * *

إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم

* * *

ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

نوادر الظرفاء

من التراث العربي الخالد الذي وثناه من الأدب العربي موضوع أدرج بعنوان "نوادر الظرفاء " لأنها نوع من الفكاهة التي تبهج النفس وتدخل البهجة والسرور إليها. 

ومن الظرفاء الذين ورد ذكرهم أكتفى بتسليط الضوء على ثلاثة منهم : 

1- الفارابي : وهو واحد من علماء عصره وبرع في جميع المجالات وخاصة ميدان الموسيقى وكان من حيث البراعة في اللحن والتأليف ما جعله موضع الإشادة بفنه من قبل الموسقيين العالميين.
في إحدى الحفلات الموسيقية أبدع الفارابي في عزف قطعة موسيقية عذبة أدخلت البهجة والسرور في قلوب المستمعين وبدا عليهم الفرح والنشوة بعذوبة اللحن ووقعه في النفوس.
ثم تابع العزف بلحن مؤثر اثار في نفوس المستمعين الحزن والألم فأجهشوا بالبكاء الشديد وبدا على وجهوهم الأسى.
ثم ما لبث أن عزف قطعة موسيقية رقيقة أنعشت القلوب وهدأت المشاعر وبدت على المستمعين ظواهر الراحة النفسية دفعتهم إلى التثاؤب والدخول في نوم عميق. 

فتركهم على حالهم وانصرف.
* * *

2- جحا: وهو من أشهر ظرفاء عصره وغني بما جاء عنه بالتعريف وفي احدى جولاته في السوق تقدم منه أحد المارة وصفعة على وجهه صفعة شديدة ارتعدت منها فرائصه فنظر إليه حجا وهو جاحظ العينين ماذا فعلت يا هذا فمن أين تعرفني؟ فأجابه المعتدي آسف أشد الأسف فقد حسبتك فلاناً ولي عنده ثأئر اعتذر ثانية على فعلتي فرد عليه حجا : أين تصرف هذه هيا بنا إلى القاضي.
مثل الخصمان أمام القاضي وكان قريباً للمعتدي فغمز القاضي قريبه بألا يزف وبعد سماع اقوالهما غمز القاضي قريبة واصدر حكمه بتغريمه مبلغ عشرين ديناراً وطلب إليه القاضي أن ينفذها لجحا فأبدى اسفه لعدم وجود المبلغ لديه فأمره القاضي بالذهاب لإحضارها وطال الانتظار ولم يعد فما كان من جحا بعد أن فكر ملياً بغمرتي القاضي فعرف أنه قد ضحك عليه واقترب من منصة القاضي وصفعه صفعة حادة مماثلة وقال له بعد عودة صاحبك خذ الدنانير تعويضاً لك وانصرف.


 * * *

3- اشعب: وهو طفيلي اشتهر بين قومه بحبه الشديد حضور الولائم والأفراح دون أية دعوة وفي أحدى جولاته بأزقة المدينة استنشق رائحة إعداد وجبة غداء بالسمك بأنواعه المختلفة وهم بالحضور فطلب صاحب الدعوة أن يتم جمع كل السمك الكبير في قصعة ووصنعها بعيدة عن مجلس أشعب ووضع قصعات السمك الصغير أمامه فجلس اشعب وقال لا قيام على طعام إن بيني وبين السمك ثأر كبير فقد غرق أبي في البحر والتهمه السمك والآن حان وقت الثأر، فأمسك سمكة صغيرة وقربها إلى أذنه فما كان منه إلا أن اعادها إلى القصعة فقيل له ما بالك يا أشعب فأظهر أن الحزن بدا عليه وقال لقد همست السمكة بأذني حرام عليك أن تأخذني جريرة سواي فأنا صغيرة جداً ولم أحضر مأساة والدك وإن ثأرك لا يكون إلا من السمك الكبير الذي تغذي بأبيك فضحك الجميع وشاركهم الغذاء.

مسك الختام

وأحب أن أنهي هذه الزاوية بنصيحة ثمينة أوردها رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في معرض التحدث عن الصداقة البريئة في حديث نبوي شريف فأقول قبل ذكر الحديث بأن المسايرة والصداقة اليوم تكشف حقيقة الإنسان ومن ساير الأشرار والفاسدين فلابد أن يصاب منهم بشيء وكذلك الأمر بالنسبة للأخيار والصالحين وأبيات الشعر التالية تفسر كل شيء:
كفى واعظاً للمرء أيام دهره    تروح له بالواعظات وتفتدي 
عن المرء لا تسل فسل عن قرينه  فكل قرين بالمقارن يقتدي 
فإن كان ذا شر فجانبه سرعة وإن كان ذا حير فقارنه تهتدي 
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة   على المرء من وقع الحسام المهند 
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله   وقام جناة الشر بالشر فاقعد 

وصدق سيدنا رسول الله حين قال : "المرء على دين خليله" وذلك أبلغ قول بهذا الصدد.

توضيح

جاءت هذه المجموعة من الموضوعات متنوعة آمل أن تكون محببة لدى الجميع وأدخلت في نفسهم السرور واستجابت في الوقت نفسه إلى رغبات واهتمامات الكثيرين لأنها ثمرة أتعاب القدماء الميامين.

وأؤكد أنني قد توخيت من كل ناحية أوردتها هدفاً محدداً تم ذكره بوضوح أو الاستنتاج من وقع الحدث ووضوحه. 

وكم كان سروري كبيراً عندما لمست بأن التركيز في مذكراتي السابقة على كثير من الأحداث التاريخية جاء في محله تماماً وأكد بشكل قاطع الترابط التاريخي بين الماضي والحاضر وأثر كل منها على الآخر.

خاتمة

أنهي كلامي كما تعودت في حياتي بخاطرة أهدف من ورائها التذكير بشيء يجيش في صدري ويلقى بما لا يقبل الشك اطلاقاً باهتمام الجميع. 

حيث أبين هنا أنه من خلال الاستدلال من مجريات الأحداث والأمور أنه يجب إعادة بنية مقومات المجتمع الاساسية التي تقوم على القلوب والعقول والأمل والثقة التي كانت من أهم صفات مجتمعنا في تاريخه الطويل وإعادة صقلها على نحو تعود فيه لأصالتها الراسخة في النفوس تتجلى بقلوب متألقة وعقول نيرة وأمل مشرق وثقة عمياء والقدرة على فعل المستحيل والتأقلم مع الحياة المعاصرة. 

وأتمنى أن تكون جميع الأمور التي جاءت في هذه المختارات قد عكست صوراً حية حقيقية عن الحب والسلام والعيش المشترك والوحدة الوطنية وحب الحياة والكفاح من أجل غد مشرق.

من قبيل التذكير

تعرضت بلادنا عبر العصور الطويلة إلى حروب وغزوات في الوقت الذي كانت فيه شعلة الحضارة تتعالى في جميع الآفاق وتجسد ذلك بتجزئة الأمبراطورية العربية والإسلامية إلى دويلات بهدف بسط السيطرة عليها لأسباب واهية بعيدة كل البعد عن الحقيقة التي كانت واضحة وتمثلت بالاحتلال ووضع اليد على ما تزخر فيه من خيرات وعطاءات خيرة.

استيقظت الأمة بعد غفوتها حيناً من الزمن ونفضت عن نفسها آثار التخلف والتأخر في سلم الحضارة وكرست جميع امكاناتها وهي والحمد لله أكثر من أن تعد وتحصى وبدت قدرتها على احتلال المكان اللائق لها تحت الشمس ولكن ذلك لم يرق لأولئك الذين كانوا يعملون في الخفاء لوضع الخطط ورسم المؤامرات التي تحول دون الاستمرار بهذه النهضة وبالتالي تحقيق حلمها الكبير بأن تكون تابعة ويكون لتلك الجهات القول والفصل بشؤونها والتحكم بقدراتها على النحو الذي يضمن مصالحها.

ولن أطيل الكلام لقد بدا الوضع واضحاً كأشعة الشمس بما تعيشه بلادنا هذه الأيام في وضع لا تحسد عليه غني عن التعريف وتعاني من أوضاع مأسوية يندى لها الجبين ووصمة عار في جبين ما يقال عنه العالم المتمدن. 

وأمام هذا الواقع المؤلم الذي يدمي القلوب وينال من عزة وكرامة الوطن الذي أنتمي إليه أقول بكل صدق وأمانة بما يشاركني فيه الجميع بأن يكون الله معنا في تجاوز هذه المحنة وأبتهل إليه بخشوع أن يحفظ كيان وطننا الغالي ووجوده في الكون وينعم على أبنائه بالخير والعطاء والعزة والكرامة إنه على كل شيء قدير وبه نستعين أن يلم شمل الأمة تحت راية المحبة والوفاء. 

والله من وراء القصد وبه نستعين،،،

محمد لطفي الغنام
25/8/1337هـ الموافق في 1/6/2016م